أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية

أقتبس عنوان المقال مباشرة من كتاب لي صدر عام 2007 عن دار (نهضة مصر) في القاهرة، وفي مقدّمته مجموعة من التساؤلات المهمة التي ثبت أنها تثير الإشكاليات الرئيسة التي يواجهها العالم اليوم. هل من ضرورات العولمة، التي هي، من وجهة نظر التحليل الثقافي، تمثّل عملية الانتقال الحضاري الكبرى من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، المراجعة النقدية لأبرز الأيديولوجيات المطلقة التي سادت المناخ العالمي طوال القرن العشرين؟

الإجابة عن هذا السؤال المحوري هي بـ: نعم! وذلك لأنه إذا كان المجتمع الصناعي الذي هو ربيب الثورة الصناعية، قد نشأ وتبلور في ظل مشروع الحداثة الغربي، فإن مجتمع المعلومات العالمي هو التعبير الأمثل عن عصر ما بعد الحداثة !…ومشروع الحداثة الغربي كان يقوم على دعائم رئيسية هي احترام الفردية، والاعتماد أساساً على العقلانية، وفتح المجال واسعاً وعريضاً أمام الحرية، التي تعني الحرية السياسية والفكرية والتعبيرية والتنظيمية.

وقد شهد عصر الحداثة تبلور أيديولوجيات شاملة، أبرزها الرأسمالية التي كانت تقدّس مبدأ حرية السوق، وتنفي حق الدولة في التدخل الاقتصادي، وتقصر دورها الأساسي على حفظ الأمن وحراسة الحدود! غير أن أيديولوجية شاملة أخرى قامت لمنافسة الرأسمالية هي الماركسية، التي دعت، في تطبيقها السوفياتي بعد قيام الثورة البلشفية عام ،1917 إلى إلغاء الملكية الخاصة وتأميم المصانع، وقيام الدولة بمفردها، من دون أي مشاركة من القطاع الخاص، بالمهام الإنتاجية. وبرزت أيضاً أيديولوجيات – وإن كانت مضادة لمسار التاريخ – هي النازية والفاشية اللتان قضي عليهما في الحرب العالمية الثانية.

ومعنى ذلك أن الصراع الأيديولوجي المحتدم الذي دار طوال القرن العشرين، انحصر بين الرأسمالية والماركسية. وكانت المشكلة الكبرى في هاتين الأيديولوجيتين اللتين استقطبت كلّ منهما العديد من الدول، أن كل واحدة منهما كانت تدّعي أنها تملك الحقيقة المطلقة! غير أن الانهيار المدوّي للاتحاد السوفياتي عام ،1989 أدى في الواقع إلى خلوّ الساحة الأيديولوجية إلا من الرأسمالية. وهذه الرأسمالية هي التي تغنّى بها فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير (نهاية التاريخ)، الذي زعم فيه أن انتصار الرأسمالية سيجعلها عقيدة الإنسانية إلى أبد الآبدين!

والواقع، أن إحدى الدعوات الرئيسية لفلسفة ما بعد الحداثة هي سقوط الأيديولوجيات الشمولية مثل الماركسية والرأسمالية، التي لم تكن بادعائها امتلاك الحقيقة المطلقة سوى أنساق فكرية مغلقة آن أوان سقوطها، بعد أن قامت على ثنائيات زائفة، من قبيل إما الرأسمالية أو الماركسية، إما القطاع الخاص أو القطاع العام، أو إما العلمانية أو الدين! لذلك، تدعو فلسفة ما بعد الحداثة إلى إبداع أنساق فكرية مفتوحة، قادرة على التأليف الخلاق بين متغيرات كان يُظنّ من قبل أنها متناقضة، ولا يمكن أن تتكامل وتتفاعل في كل واحد. ومعنى ذلك، أن المراجعة الأيديولوجية ارتبطت بنهاية الحداثة وبداية عصر العولمة.

غير أن عصر العولمة ارتبط أيضاً بثورة الاتصالات الكبرى وفي قلبها شبكة الإنترنت التي جعلت العالم كلّه متصلاً. وقد أدت هذه الثورة إلى نشوء مجتمع جديد هو المجتمع الافتراضي، الذي أصبح يزاحم المجتمع الواقعي في تأثيره الطاغي على أنساق القيم، واتجاهات الناس، والسلوك الاجتماعي.

وأخذت الديموقراطية وضعاً جديداً بعد أن ظهرت أنماط مستحدثة لها مثل الديموقراطية الإلكترونية، إضافة إلى ظهور أنواع جديدة من الخطابات السياسية والاجتماعية والثقافية، أخذت شكل المدونات وأصبح يطلق على من يحررونها المدوّنون وظهر بعد ذلك، (الفايسبوك) الذي يعبّر فيه الناس عن تأملاتهم وأفكارهم بغير حدود ولا قيود. ثم برزت رسائل (التويتر)، التي هي رسائل مختصرة لا تزيد عن مئة وأربعين كلمة تعبّر عن آراء أصحابها في المسائل السياسية والثقافية. ونظراً إلى متابعتي تحولات المجتمع العالمي منذ نهاية الحرب الباردة، وزوال النظام الثنائي القطبية في العلاقات الدولية، وبروز النظام الأحادي القطبية، أدركت أن عصر العولمة يفجّر من المشكلات أكثر مما يقدّم من الحلول! ومن بين هذه المشكلات، أزمة السياسة التي من تجلياتها الانتقاص من سيادة الدولة القومية، وبروز حق التدخل السياسي، والعجز عن مواجهة ظاهرة الإرهاب العالمي.

وإذا كنا أكدنا منذ زمن، أن عصر العولمة سيشهد مراجعات أيديولوجية شاملة، وأن عصر الهيمنة الأمريكية لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، كما كان يظن المحافظون الجدد في إدارة الرئيس بوش الابن، وأن من المستحيل أن تكون الرأسمالية المتوحشة هي المذهب السائد والعقيدة المسيطرة التي تؤثر سلباً في مصائر البشر في القرن الحادي والعشرين، إلا أن دهاء التاريخ شاء أن يثبت – في الواقع وليس في مجال التنظير – أن نبوءاتنا التي صغناها منذ سنوات في كتبنا السابقة، قد تحقّقت، وذلك بوقوع الأزمة المالية الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي قلب العالم الرأسمالي.

انهار النموذج الرأسمالي: بصورته التقليدية التي كانت تزيح الدولة عن المجال الاقتصادي، وبصورته المعولمة التي أطلقت سراح الرأسمالية المتوحشة على حساب شعوب العالم في البلاد النامية خصوصاً. وإذا كان التدخل العسكري الروسي في جورجيا أدى عملياً إلى إسقاط نظام الهيمنة الأمريكية المطلقة، وتأكّد هذا الاتجاه بالتدخل الروسي في سورية، فإن سقوط النموذج الرأسمالي الأمريكي مؤشر إلى نهاية عصر وبداية عصر جديد.

وليس معنى ذلك أن الرأسمالية ستنتهي إلى الأبد، لكن المؤكد أن مراجعة أيديولوجية بالغة العمق لا بد أن تنطلق من الآن لصياغة مذهب اقتصادي عالمي جديد، يقوم على كفالة الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية معاً. مذهب لا يطلق العنان لقوى السوق، ولا ينفي دور الدولة الاقتصادي. فقد ثبت، بعد التدخل الجذري للدولة الأمريكية، الذي يتمثل في ضخ نحو 700 تريليون دولار لإنقاذ المؤسسات الرأسمالية، وتفادي الانهيار الكامل للاقتصاد الأمريكي وإعلان إفلاسه، أن للدولة دوراً في الرقابة المالية والاقتصادية من خلال نظام جديد ينبغي إرساء قواعده.

الملاحظات السابقة صغتها عام ،2007 وهي تشير أساساً إلى مشكلتين: الأولى، انهيار النظام الرأسمالي التقليدي، الذي كان يكفّ يد الدولة عن التدخل في المجال الاقتصادي، على أساس أن من طبيعة السوق أن تتوازن من طريق (اليد الخفية) كما كان يؤكد آدم سميث. غير أن الأزمة الاقتصادية الكبرى التي ضربت الاقتصاد الأمريكي عام ،2008 أثبتت انهيار النموذج الرأسمالي. أما المشكلة الثانية، فهي أن سقوط النظام الرأسمالي خصوصاً الذي سادته في السنوات الأخيرة (الليبرالية الجديدة)، التي طمحت إلى تأسيس سوق اقتصادية عالمية، من شأنه نهاية عصر العولمة.

ويؤكد هذه الأحكام أن قادة الفكر الرأسمالي العالمي، بعد قبولهم مبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد، إلا أنهم لم يستقروا بعد على حدود هذا التدخل وكيفية إدارته. أما أزمة العولمة، التي هي محلّ إجماع عدد كبير من المفكرين، فقد تحولت أخيراً إلى مقولة تحتاج إلى مناقشة متعمقة، وهي أن عصر العولمة قد انتهى وأننا نعيش الآن في عصر ما بعد العولمة!

********

السيد يسين

عن(الحياة)

 

العدد 1105 - 01/5/2024