الشعراء الفلاسفة «المعري الخيام طاغور».. الموقف من الموت

الاختلاف في وجهات النظر من الحياة، بين المعري والخيام وطاغور، سيقابله توافق لافت في النظرة إلى الحياة الفانية، وطلب الموت، والخلاص. مع فارق هام يكمن في أن المعري سعى وراء الموت- وإن كان يخافه- في كهولته رجاء أن يعرف ما بعد الموت، بينما طاغور استعد له وطلبه شيخاً فانياً على حافة قبره، أمّا الخيام فقد كان يخشى أن يموت قبل أن يحقق أكبر قدر من المتعة في حياته القصيرة، إذا قيست بعمر الزمن.

لاشك أن حالة طاغور النفسية كان لها علاقة وطيدة بحياته الخاصة، فقد تأذى من الموت كثيراً، إذ راح القدر يقطف من بين يديه ورود حياته، ففي الرابعة عشرة من عمره توفيت والدته، وبعد زواجه الأول بقليل توفيت زوجته وهي بعد في ريعان صباها، ثم لحق بها ابنه وابنته، وتوّج ذلك بأبيه الذي كان يستقي منه الكثير، وكلّ ذلك في فترات زمنية متتابعة ومتقاربة، فخلفت تلك المصائب في نفسه جراحاً كبيرة لم يكن من السهل اندمالُها، حتى كادت أن تفضي به لليأس، لولا إيمانه بأن الموت صفحة تطوى لتنفتح بعدها صفحة لحياة خالدة أجمل وأكمل. ولكن الأمل كعادته يظلّ يرفُّ بين رقائق شعره، فالورد سيفوح شذاه من جديد، إنّما سيفوته أن يُقطف مرة أخرى، فالليل الحالك سيخفيه عن الدنيا، وبالرغم من حب طاغور للحياة، وعيشها بكل ما فيها من لذة وألم، إلاّ أنّه يعترف بأنّه قَطَفَ وردَها، فوخزَهُ شوكُها، ومع قرب انتهاء العمر، وامتداد العتمة، ذوت وردة الحياة وبقيت وخزتها:

إيه أيتها الدنيا لقد قطفت وردتك.

وضممتها إلى صدري فوخزتني شوكتها.

ولمّا جنح النهار إلى الزوال، وامتدت العتمة،

ألفيت الوردة ذاوية، بيد أنّ ألم وخزتها ظلّ باقياً.

ويبدو الرمز جلياً، فهو يرى شبابه وحياته في النهار وشيخوخته ونهايته في الليل، وطاغور المحب للحياة، يأسف لفراقها، ويتألم لأنه سيضيّع تلك الأرض التي درج عليها، ويعلم أن الحياة تغادره بصمت، مسدلة على عينيه ستارها الأخير، مع كل ذلك يرى النجوم تتلامح، والفجر سيسفر كما كل يوم، وستستمر الحياة صاخبة بلذتها وألمها:

أنا أعلم أنّه سيأتي يوم أضيّع فيه هذه الأرض عن ناظري.

إن الحياة تغادرني في صمت، بعد أن تسدل على عيني الستار الأخير،

ومع هذا فإنّ النجوم ستتلامح ساهرة في الليل، وسيسفر الفجر، كما أسفر أمس.

في الموقف من الموت سنجد توافقاً كبيراً بين المعري وطاغور من جهة، وبين المعري والخيام من جهة أخرى، فإذا كان المعري قد أخذ هذا الموقف قبل أن يدخل في الشيخوخة، سنجد أن طاغور اتّخذ موقفه بعد أن عبر مرحلة الكهولة، فالمعرّي يرحّب بالموت حين سيأتيه، ويرى في الموت فجراً ساطعاً سينير كل شيء، حقيقة وجوده، ماهيته، وإن ذهبت أبعد من ذلك، قد يكون للمعري تصوّرٌ يقوم على أن حياة الإنسان لا تنتهي بالموت بل قد تبدأ به، وقد أشار إلى ذلك في أكثر من موقع، فهو يقول:

لا تَظْلِموا الموتَى وإِنْ طَالَ المدَى

إنّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أن تَلْتَقوا

فما الذي يعنيه المعري بهذا القول؟ وأي لقاء هذا يمكن أن يحدث بعد الموت، كي يطلب من الأحياء ألاّ يظلموا الموتى؟ ويخص نفسه هنا، لأنّه يخاف على الحي أن يلتقي من ظَلَمَه بعد موته. لهذا هو يرحّب بالموت كعادته، لأنّ فيه حياة أخرى:

مرحَبًا بالموتِ والعيشُ دجًى

وحِمامُ المرء كالفجرِ سَطَعْ

ولكن أتراه يستقر على رأي؟ فها هو ذا يُطَمْئِن من يخاطب، بألاّ يصاب باليأس إذا أعتم ليله، وفي الوقت ذاته بألاّ يفرح كثيراً إذا سطع فجره، فالأمر كله أمر نسبي، فلا الليل والعتمة يأس مطلق، ولا الفجر والصباح أمل مطلق:

فَلا تيْأسَنَّ لليلٍ دَجَا

ولا تَفرَحنّ بفًجرٍ سطعْ

ويتساءل ضجرا من حياته، متى ينقضي وقت وجوده في الدنيا؟ ويسكن التراب ويهدأ، فروحه صدِئت من مجاورتها لهذا الجسم، لكثرة ما تأذّت وتألمت:

مَتَى يتقضّى الوقتُ، واللهُ قادرٌ

فَنَسْكُنُ في هذا الترابِ ونهْدَأُ

تَجاورَ هذا الجسمُ والرُّوحُ برهةً

فَما بَرِحَتْ تأذى بذاكَ وتصْدأُ

وهو لا يرى في الحياة متعة بل هي طريق للموت، وهي الدنيا الخلوب والغادة البكر العجوز، منها الأذى والشقاء، ويرى بأنها وعدت بنقله من تلك الحياة ويلومها لعدم إنجاز وعدها، يقول:

لحاكِ اللهُ يا دُنيا خَلوبًا

فَأَنْتِ الغادةُ البكرُ العجوزُ

وجدناكِ الطريقَ إلى المنايا

وَقَدْ طالَ المدَى فَمَتَى نَجُوزُ

سئمْنا من أذاكِ فَنَجِّزيْنا

فإنّ مروءةَ الوعدِ النُّجُوزُ

وعلى الرغم من تعجيله بالموت، وطلبه بإنجاز الوعد بالرحيل، إلاّ أنه لا يلبث أن يقول بأن همّه يتضاعف إن أتاه الموت قبل أن يقضي حاجته من الدنيا بالتعرف عليها، وإن كان وجوده في الحياة لا يقدم ولا يؤخر:

تضاعف همّي أن أتتني منيّتي

ولم تُقضَ حاجي بالمطايا الرواقص

وما عالمي إن عشت فيه بزائدٍ؟

و لا هو إن ألقيتُ منه بناقصِ

وفي هذا المعنى يتوافق مع عمر الخيام اذ يقول:

قضيْنا ولَمَّا نقضِ وا أسفي المنى

ومنجلُ ذي الزرقاء لجّ بنا حصدا

فلهفاه ما كدنا لنفتحَ طرفَنا

إلى أنْ فنينا دون أن ندرك القصدا

وهنا يظهر التوافق جلياً في المعنى مع أن الخيام عاصر المعري في أواخر حياته إلا أن أحداً من النقاد وكتاب السيرة لم يذكر أن عمر الخيام التقى المعري أو قرأ له. ونرى التوافق أيضاً مع طاغور في النظر للموت، الذي يعتبره منتهى حياته الأسمى، يسهر انتظاراً لوصوله، ولأجله تذوق حلاوة ومرارة الحياة، يقول:

إيه أنت يا منتهى حياتي الأسمى، أيها الموت،

يا موتي، تعالَ واهمس في أذني.

يوما بعد يوم سهرت في انتظارك،

من أجلك تذوّقت هناءة العيش،

 وعاينت عذابها.

فطاغور الذي استبد التعب بعينه وقلبه ما عاد مستعداً لاستقبال الفجر، يطلب إقصاء نوره، وإبعاد رقصة الحياة، والتسربل بوشاح الظلمة الناعم، فما غير الموت يخلصه من عناء هذا الكون:

لقد مرّ الليل فوق سرير الحزن، لقد استبدّ التعب بعيني،

إنّ قلبي المثقل لمّا يستعد لاستقبال الفجر بأفراحه الجمة.

أسدلْ ستارًا على ذلك النور العاري،

أقصِ عنّي ذلك البريق الساطع، وأبعد عني رقصة الحياة..

بينما ما توافق عليه المعري والخيام جدير بالوقوف عنده، فالمعري يرى الموت نوماً طويلاً لا أمد له، والنوم موتاً قصيراً منجاباً، بحيث يستشف من قوله هذا إنكاره للنشور بعد الموت:

الموتُ نومٌ طويلٌ ما له أمدُ

والنوم موتٌ قصيرٌ فهو منجابُ

ثِيَابي أَكْفاني، وَرَمْسِي مَنْزلي

وَعَيشِي حِمامِي والمنيةُ لي بَعْثُ

وقد أكّد هذا المعنى صراحة في قصيدة أخرى، مشيرا إلى أنّ ما مات أحد ثم قام من قبره، ولو هبّ أحدهم وتحدث لصدقه البعض وكذّبه آخرون:

وَنَوْمِيَ مَوْتٌ قَرِيبُ النُّشُورِ

وَمَوْتِي نَومٌ طَوِيل الكَرَى

فهل قام من جدثٍ ميّتٌ

فيخبرَ عن مسمعٍ أو مَرَى

وزاد تشكيكه بالنشور إذ يرى بأنه لو هبّ من مات ودفن على مرّ الزمن، لضاقت بهم الأرض، مدنها وبيدها الأماليس:

لو هبّ هُجّادُ قوم، في الثرى،دُفنوا

لضاقَتِ المُدنُ والبيدُالأماليس

وقد كرّس هذا المعنى عمر الخيام إذ يؤكد أن الموت عنده نوم طويل، وكم من صباح سيبدو بعد موته، وهذا إشارة إلى استمرار الحياة، وربما قصد أن لا نشور بعد الموت:

فكمْ من صباحٍ سيبدو لنا

ونَحنُ نيامٌ بِبطنِ الرُّغامْ

والدهر عند الخيام ليس بفانٍ، ولا عودة أو حساب، فعش عمرك وسيغدو جسدك حجارة من طين تبنى به قصور الناس وبيوتهم:

عِشْ هنيئاً فالدهر ليس بفانِ

وستبقى النجوم ذات اقترانِ

وسيغدو ثراكَ لبنا  فيبنى

في قصور للناس أو إيوان

ودوام الكون أمرٌ مفروغ منه عند الخيام، ستذهب أسماء و رسوم، وسيفنى الناس ويبقى الكون نظيماً قائماً كما كان:

سنفنى وهذا الكونُ سوف يدوم

وتذهبُ أسماءٌ لنا ورسوم

كَما لَم نكن والكون كان منظّماً

سنفنى ويبقى بعدُ وهو نظيم

ولأن العمر يذهب هباء، فلا يعني الخيام أين يذهب الإنسان بعد الموت، فهو لا يؤمن بالنشور:

يا باقياً رهنَ الرياءِ ورائحاً

لقصيرِ عيشكَ في عناءٍ مُتعبِ

أتقولُ أين تروحُ من بعد الردى

هاتِ المُدامَ وأيْنَ ما شِئتَ اذهبِ

ونرى التوافق أيضاً بين الخيام والمعري، في اعتبار أن الحياة والدهر مضيعة للوقت والعمر كله هباء، ولكنّه يدعو لأن يتمتع الإنسان بتلك الفرصة القصيرة من الحياة:

دع عنك حرص الوجود واهنأ

إن أحسن الدهر أو أساءَ

واعبث بشعر الحبيب واشربْ

فالعمر يمضي غداً هباء

في حين نجد المعري يرى الدنيا والدة، وما الضياع والتفريط والإسراف بالعمر إلاّ منها، ولو أنّ الدنيا

زوجته لطلقها، ولكنّها أمٌّ لا منصرف عنها:

يا أمَّ دَفرٍ لحاك الله والدةً

منكِ الإضاعَةُ والتَّفْريطُ والسَّرفُ

لو أنّك العِرسُ، أوقَعْتُ الطلاقَ بها

لكنَّكِ الأمُّ هلْ لي عنكِ منصرفُ؟!

وإذا كان المعري قد حدد مذهبه في الحياة، وموقفه من الموت في شعره، في قصيدة مشهورة رثى فيها (فقيهاً حنفياً) مطلعها:

غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي

نوح باكِ ولا ترنّم شادِ

وقد ضمّن المعري تلك القصيدة العديد من أفكاره الفلسفية، مشيراً إلى أنّ وجود الإنسان القديم على هذه الأرض، وحياته القصيرة فوقها، راكمت على مرّ آلاف السنين الملايين من الموتى، الذين تحللت جثثهم وامتزجت بتراب الأرض، ليتساءل في حيرة وقلق: إذا كانت قبورنا اليوم تملأ الأرض، فأين قبور الأُول من عهد عاد وما قبل عاد؟ فيطلب من الإنسان أن يدوس أديم الأرض بلطف ورفق، وإن استطاع فليسر في الهواء بلا خيلاء ولا عجرفة، فما تراب هذه الأرض إلاّ من رفات هؤلاء البشر:

صَاْحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلأُ الرَّحْبَ

فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَجْسادِ

فإنه يلتقي متوافقاً مع الخيام الذي أتى على ذلك المعنى، فهو يرى أن أناساً كثيرين مرّوا بتلك الأرض، وغيرهم كثيرون طواهم الثرى، فما الكون إلا صحراء فناء، فأقوامٌ تولي، وأقوام تنتظر:

أرى أناسا على الغبراء قد هجدوا

ومعشراً تحت أطباق الثرى رقدوا

وإن نظرتُ لصحراء الفناءِ أرى

قوماً تولّوا وقوماً بعد لم يردوا

أما طاغور فبينما الحياة تغادره في صمت، وتسدل عليه الستار الأخير، تبقى النجوم متلألئة ساهرة، والفجر سيسفر كما كان بالأمس، وتستمر الحياة بصخبها وصمتها بلذتها وألمها:

إن الحياة تغادرني في صمت،

 بعد أن تسدل على عيني الستار الأخير،

ومع هذا فإنّ النجوم ستتلامح ساهرة في الليل،

وسيسفر الفجر، كما أسفر أمس، وستمتلئ الساعات،

 كما تمتلئ أمواج البحر، حاملة اللذات والألم).

 ولو تعمّقنا أكثر فيما قاله الشعراء الثلاثة سنستشف أن جميعهم كان يعتقد باستمرار الحياة، وأن الروح خالدة إنما تبدل قمصانها من جيل إلى جيل.

العدد 1105 - 01/5/2024