تصميم البيئة في المدينة السورية وعلاقته مع المشاكل الاجتماعية والنفسية

 لقد بات واضحاً في ميدان علم النفس الاجتماعي، أن السلوك البشري هو نتاج البيئة الاجتماعية والثقافية، فهي التي تشكله بطريقة تتناسب والقوى الفاعلة فيها. ولما كانت هذه القوى هي التي تشكل السلوك البشري، فإن قوة البيئة الطبيعية من مناخ وتضاريس وأبنية سكنية تعمل هي الأخرى على تشكيل السلوك البشري أيضاً.. وقد لوحظ على صعيد الواقع اليومي، أن طبيعة تصميم البيئة السكنية تؤثر على سلوك الأفراد تأثيراً بيناً..

إن الدراسات التي أجريت في هذا الميدان قد أشارت إلى الآثار المترتبة على تصميم البيئة السكنية على السلوك، ومنها حصراً آثار تتعلق بالجانب الاجتماعي والنفسي، وما يهمنا هنا هو معرفة العلاقة بين تصميم البيئة السكنية في سورية، والمشاكل الاجتماعية والنفسية. ومادام الحديث يجري في  الآونة الأخيرة كثيراً عن إعادة الإعمار في البلاد، فلابد في هذا السياق من الحديث عن التصميم البيئي، ويعني صراحة القدرة على تكييف البيئة أو تعديلها وفقاً لمتطلبات الناس، سواء في الميدان النفسي أو في الميدان الاجتماعي. وفي المحصلة النهائية إن البيئة المحيطة بالإنسان تعدّل أو تكيّف على الدوام وفقاً لمتطلباته.. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التصميم البيئي له وظائف معينة في تنظيم الحياة الاجتماعية داخل المجمع السكني، ولعل أبرزها:

تسهيل التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وتحسين نوعية الأداء في المؤسسات الإنتاجية والخدمية، وتقليل معدل الإصابة بالاضطرابات النفسية، وتسهيل التخلص من النفايات والملوثات، والتخفيف عن كاهل الإنسان بعض أعبائه الحياتية. إن العناية إذاً بتصميم البيئة السكنية ستخفف الكثير من مشكلات الإنسان النفسية والاجتماعية، وستخفف كذلك من مشكلاته الاقتصادية التي تزداد المعاناة منها، بسبب الأخطار المصاحبة لتصميم البيئة السكنية. ولكن يبقى التساؤل قائماً: كيف يستثمر التصميم البيئي المشكلات، أو بمعنى آخر كيف يحرّض التصميم البيئي على ظهور المشاكل؟

ألوان التحريض

هنا يمكن رصد ألوان التحريض بالشكل الآتي:

1- إن مؤسسات الإسكان في سورية تلجأ في الآونة الأخيرة إلى تشييد مجمعات سكنية عمودية وذلك تقليلاً للتكلفة والوقت، فضلاً عن أن هذا النمط من الإسكان يشغل مساحات أقل بالمقارنة مع مجمعات الإسكان ذات النمط الأفقي.. ويعود سبب ذلك إلى زيادة سكان المدينة في سورية، والهجرة التي تتعرض إليها من المناطق الريفية، وما رافق ذلك من غياب للضوابط والتشريعات التي تحد منها. وكانت العاقبة من ذلك حدوث أزمة في الإسكان، أخذت تعانيها المدينة السورية، ولأجل حل للأزمة التي أخذت تتفاقم بمرور الوقت، وخصوصاً خلال السنوات الخمس الماضية، لجأت مؤسسات الإسكان في البلاد إلى وحدات السكن العمودي تقليلاً للوقت والتكلفة، غير أن هؤلاء المخططين كان جل اهتمامهم التركيز على الطرق التي يتم من خلالها تخفيف الأزمة السكنية، ولم يركزوا على المشكلات التي قد تنجم عن هذا النمط من الإسكان عندما يقطنه الساكنون، فهو بصورة عامة ليس نتاج البيئة السورية، ويقلل من فرص التفاعل الاجتماعي والعزلة الاجتماعية. وتشير الوقائع إلى أن بعض مشكلات الساكنين قد تنجم عن مثل هذا النمط.

2- إن حركة المرور في شوارع المدينة السورية تشهد ازدحاماً في الوقت الحاضر، والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى أن أغلب المراكز الخدمية تتمركز في وسطها، بينما تقل هذه المراكز في الأطراف منها، وكل ذلك أدى إلى التكدس في الشوارع والطرقات العامة، وانعكاس ذلك على المواطن الذي يصرف في الشارع نتيجة ذلك فترات طويلة يمكن أن تؤدي إلى الإحساس بالإرهاق البدني والتوتر العصبي.

3- إن عدم مراعاة التخطيط العمراني المنظم للمدينة السورية، والتفاوت الاجتماعي القائم فيها، قد أدى إلى انتشار أحياء سكنية متفاوتة في نوعية السكن، فلقد شاعت أحياء سكنية تتمتع بمساكن واسعة تحيطها الحدائق والخدمات الحضرية تتناسب ونوعية ساكنيها، وبالمقابل شاعت فيها أحياء سكنية مزدحمة إلى درجة التكدس، تتمتع بمساكن ضيقة شديدة التراص إلى بعضها، وتفتقر إلى الفضاءات الداخلية وإلى الحدائق التي تتوسطها. ولقد انعكس ذلك على الساكنين من الناحية الاجتماعية والصحية والعصبية، إلا أن انعكاس ذلك كان بصورة أكبر على المدارس في تلك الأحياء التي ضعف دورها التربوي في مجال تشكيل سلوك التلاميذ وغيرها.

4- لقد نشأت على أطراف المدينة السورية أحياء سكنية غير منظمة بسبب الهجرة إليها من الأرياف نتيجة قلة فرص العمل، وتدني مستوى الخدمات فيها، أو بسبب الأزمة وآثار الدمار الذي خلفته الحرب الإرهابية التي شنت على سورية، ما أدى ويؤدي إلى بروز مشاكل اجتماعية خطرة يمكن أن تسبب لاحقاً الاضطراب والفوضى، الأمر الذي يتطلب إيلاء العناية بالتصميم البيئي من حيث التخطيط السكني فيها وتسهيل إيصال الخدمات إليه، ورفع نوعية الحياة بما يتناسب وحالة التحضر في المدينة.

5- لقد سمح المسؤولون عن تخطيط المدينة السورية، بتجاوز بعض الضوابط التي أقروها، وخصوصاً سماحهم للباعة بالتجاوز على أرصفة الطرقات والشوارع، أو استخدام بعض الفضاءات التي عادة ما تكون أمام الأسواق العامة أو المحال التجارية. والحقيقة أن العمل في مثل هذا النوع من التجارة وفّر فرصاً للعمل لشباب كانوا يشكون البطالة أو قلة فرص العمل، غير أن توسع هؤلاء في تجارتهم أصبح يعيق حركة المرور في الشوارع، ويصعب من وصول الخدمات إلى الأحياء السكنية المحيطة بهذه الأماكن، ويشوه المنظر الجمالي للمدينة.. وكان ذلك يؤدي في كثير من الأحيان إلى اتخاذ قرارات بإزالة أكشاك الطرقات هذه، مما كان يؤدي إلى إلقاء هؤلاء الشباب مرة أخرى على قارعة الطرق، وإحداث اضطرابات اجتماعية ونفسية لديهم.

على ضوء ما  طرح، يمكن تقديم بعض المقترحات التي من شأنها أن تقلل من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي يمكن أن تنشأ نتيجة الخلل في تصميم البيئة في المدينة السورية:

–  الدعوة إلى استثمار الفضاءات الموجودة في الأحياء السكنية، وتحويلها إلى أماكن للتواصل الاجتماعي، أو جعلها ساحات خضراء يلتقي فيها الكبار والصغار بقصد قضاء أوقات الفراغ..

– الدعوة إلى حل بعض اختناقات الطرقات في المدن، إذ إن بقاء هذه الاختناقات سيتسبب عنها ازدحام في حركة المرور، وبالتالي قد يقود ذلك إلى تعقيدات نفسية وعصبية.

– من الضروري أن يكون ثمة حل لأولئك الشباب الذي يعملون في تجارة الأرصفة، بحيث تُضمن استمرارية كسب قوتهم، وفي الوقت نفسه يتم الحفاظ على حركة المرور وإيصال الخدمات إلى الأحياء السكنية التي يوجدون فيها، وبالتأكيد فإن إيجاد بعض الحلول لمشكلات هؤلاء الشباب يقتضي إجراء دراسة شاملة لأحوال المدينة الاقتصادية والعمرانية وإمكانية استحداث فرص عمل.

– من الضروري أن تعيد الجهات المعنية النظر في الأحياء المقامة على أطراف المدن، إما بتحسين شبكة خدماتها الاجتماعية، أو التقليل من الهجرة إليها مستقبلاً، أو إيجاد بدائل سكنية.

– الدعوة إلى عقد ندوات علمية لمناقشة أوضاع الأحياء السكنية المزدحمة، بغرض التوصل إلى بعض المقترحات التي من شأنها أن تقلل من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الناتجة عن هذه الحالة.

العدد 1107 - 22/5/2024