محاسبة الإدارة النقدية وتصحيح سعر الصرف استباقاً لانهيار الليرة

 يحق لنا مساءلة المصرف المركزي وحاكمه وأعضاء مجلس النقد والتسليف واللجنة الاقتصادية المصغرة على فشلهم الذريع في معالجة القضية الأكثر خطورة الآن وهي سعر الصرف؟ ولماذا لم يتخذوا ما يجب من قرارات لوقف التدهور في قيمة الليرة؟ ومحاسبتهم عن الضرر الكبير الذي ألحقوه بالناس نتيجة إجراءاتهم؟ ويحق لنا أيضاً محاسبة كل من بدد احتياطي القطع الأجنبي؟ تلك القوة الإضافية التي امتلكها الاقتصاد السوري، وادُّخرت من أجل استخدامها في الأزمات، فأصبحت تشكل أزمة بحد ذاتها، ومطرحاً للاتجار غير المشروع، وجني الثروات، وتكديسها على حساب الضعفاء اقتصادياً.

قفز سعر الصرف فوق كل الحواجز، وتجاوز الخطوط الحمر، ولم يعر انتباهاً لكل التنبيهات التي أطلقها حاكم المصرف المركزي. إذ يسجل هذا السعر رقماً جديداً غير مسبوق، كل يوم، يصبح فيما بعد من التاريخ، فقبل عام كان السعر 220 ليرة أمام الدولار، وحالياً تجاوز 620 ليرة. ويبدو أن الاتجاه العام لسعر الصرف نحو مزيد من الارتفاع، وهو ما يمكن اعتباره تصحيحاً لسعر الصرف الإداري الذي حاول المركزي فرضه بقوة القرارات، مبتعداً عن السعر الحقيقي. إذ لم يعد هناك قدرة للمركزي بأن يحافظ على السعر الذي يريده، فكل الأدوات والشروط والظروف الموضوعية التي تتيح وضع سعر صرف محدد إدارياً، استهلكها المركزي، وضيّع الفرص الكثيرة، لتصحيح السعر.

قلنا سابقاً، إنه لا يمكن للمركزي الدفاع لفترة طويلة عن سعر صرف غير حقيقي، ولا يستطيع الاستمرار بهذا الموقف. واقترحنا أن يبادر المركزي قبل غيره من الجهات، ويصحح سعر صرف الليرة أمام القطع الأجنبي، ويحدد سعراً يمكن الدفاع عنه. إذ ليس من الضروري تحديد سعر صرف منخفضاً، بل المهم المحافظة على السعر المطلوب. كل الأسعار التي كان يحددها المركزي والمضاربون لليرة، كانت أسعاراً وهمية، وظلت الإدارة النقدية تتجاهل العوامل والأسباب الخارجية، والخارجة عن مدى سيطرتها، والتي بمجملها تلعب دوراً قيادياً في سعر الصرف، واتجاهه الصاعد. واتخذت الإدارة المذكورة موقفاً أقرب إلى البحث عن شماعة لتبرير المدى الذي وصل إليه سعر الصرف، وكأنها بذلك تنفض يديها من العملية، وتضع أمام الناس مبرراً إضافياً للقلق، وتدعوهم بشكل مباشر للعودة إلى غريزة القطيع في اقتناء القطع الأجنبي، وهو ما يؤدي إلى إحداث هزات قوية في سعر الصرف.

تاريخياً، لم تتعرض بلاد لحرب أو هجمة شرسة، كما تتعرض لها سورية، إلا وكانت عملتها الوطنية، من أكثر المتأثرين سلبياً، ومن أوائل القطاعات المتضررة والخاسرة. وفي التجربة اللبنانية، خير دليل على مدى الضرر الذي لحق بسعر صرف عملتها، وتحديد قيمتها، واحتاجت العملية إلى توقف الحرب الأهلية. وبدأت المعركة الثانية، المتعلقة بالمحافظة على هذا السعر، وضمان استقراره. هذا لا يعني أننا يجب أن ننتظر توقف الحرب المفتوحة الأبواب، لتحديد سعر الصرف المناسب لليرة، والمتلائم مع الاقتصاد الوطني. إذ من الممكن أن يتخذ المركزي موقفاً معيناً، ويدافع عن سعر صرف الليرة الذي يجب أن نعترف به، رغم آلام هذا السعر ومخاطره ، فهو سيؤدي إلى إلحاق أضرار بطبقات اجتماعية، ويمسّ حيواتها المعيشية، وانزلاق طبقات جديدة إلى الفقر. ويمكن للحكومة عندئذ أن تتخذ إجراءات تخفف من الضغوط الاقتصادية الهائلة، الناجمة عن هذا الموقف أو الخيار الذي بات وحيداً أمام السلطة النقدية.

لا تنفع المبادرات التي تطلق لإنقاذ الليرة من وضعها المتردي، كمبادرة اتحاد المصدرين السوريين، القاضية بسحب تداول سعر الصرف من التداول الإعلامي، هذا أكبر ضرر يلحق بسعر الصرف، أن يُفاجأ الناس بسعر غير متوقع، ويكون قلة من المضاربين جنوا الأرباح. هذا يعيدنا إلى المبادرات السابقة للاتحاد نفسه، قبل نحو عام، وذلك من خلال إيداع مبلغ بالقطع الأجنبي في الحسابات، وكانت الفكرة ذات أثر نفسي، لكنها لا تستطيع تعديل سعر الصرف، ولا يمكن أن تؤثر إيجابياً بشكل كبير في تخفيضه. المشكلة الأساسية في هذه المبادرات – على أهميتها- أنها لاتصلح لزمن الحرب، ولايمكن أن تدوم تأثيراتها طويلاً، لأن الأسباب المؤدية إلى هذا الارتفاع في سعر الصرف تحتاج إلى معالجات أخرى، ومواقف مغايرة، وإجراءات مختلفة.

إن الليرة التي فقدت قيمتها، عقب خمس سنوات حرب متتالية، تحتاج إلى إجراء يوقف التدهور، ويضع حداً للارتفاع المستمر لسعر الصرف، من خلال معالجة الأسباب التي أدت إلى الوصول إلى هذا الواقع النقدي الصعب. وعلى رأس ذلك: عودة الإنتاج، والحد من استنزاف القطع الأجنبي في عمليات استيراد وهمية، وإعادة الثقة بالليرة لاسيما لدى السوريين الذين يتعاملون بها.

ومن المؤسف، أن يكرر المركزي موقفه المرفوض في بياناته الباهتة، والخالية من أي شيء يدعو إلى التفاؤل، ويشجع الناس على الثقة بعملتهم. والبيان الذي أصدره الأحد الماضي، فيه من التعمية، والمغالطات ما يثير التساؤل حول طرق إدارة الأزمة النقدية، ومنها: هل يحق للمركزي دعوة الناس لاستهلاك المنتج المحلي، أم يجب عليه عدم تمويل استيراد أي منتجات غير ضرورية؟

 يتحدث المركزي عن (بلبلة)، إلا أن البلبلة الحقيقية تحدث نتيجة غيابه وضعف إدارته لهذه الأزمة. إن السوريين في أحلك ظرف الآن، ولا قدرة لديهم لتحمل أخطاء هكذا إدارة نقدية، خيبت آمالهم، إضافة لاستمرار اللجنة الاقتصادية المصغرة في غيابها عن جوهر المشكلة. فإلى جانب الضرورة الملحة لتصحيح سعر صرف الليرة، ومنع انهيار العملة الوطنية، التي تؤكد كل المؤشرات أنها تسير بسرعة في هذا الاتجاه، ثمة ضرورة أيضاً لإعادة هندسة الإدارة النقدية واللجنة الاقتصادية المصغرة، وتشكيل مجلس نقد جديد، قادر أن يضبط سعر الصرف بعيداً عن المتاجرة التي نراها في سوق الصرف النظامية، قبل السوداء.

العدد 1107 - 22/5/2024