أبو القاسم الشابي… لون شعري متفرد

المدرسة والثقافة والمجتمع والتاريخ ـــ كما تقول القامة الشعرية الكلاسيكية الخضراء بدوي الجبل ـــ قد تخلق عالِماً، وقد تخلق فيلسوفاً، وقد تخلق فاتحاً، وقد تخلق مخترعاً، وقد تخلق أنواعاً متعددة من العظمة، ولكنها لن تستطيع أن تخلق شاعراً، فالله وحده هو الذي يخلق الشاعر..

لا غرابة في قول الشاعر المبدع بدوي الجبل الذي وصل بنا إلى أعلى مرتبة من مراتب (الشعر الصافي) ولا سيما في قصيدته (الحبّ والله)، ألم يقل الشاعر (الفرد دي موسيه): أنا لا أعمل، ولكني أسمع فأفعل، فكأن إنساناً مجهولاً يناجيني في أذني..؟ ألم يذهب الشاعر (رينيه) إلى أنه كان يستيقظ من النوم فيجد قطعة الشعر تامة..؟ والشاعر(أبو القاسم الشابي) أما قال: أنا أنقل المقدر لي. أحياناً أنقله من اللوحة الخيالية السماوية التي أمامي كأنني أنقل من كراسة، وأحياناً أنقل مما يشبه الضباب.. فديواني مكتوب في الأزل، وأنا أنقله من الغيب، فإذا كانت عين خيالي حادة ولا ضباب يحجبها، نقلت ما هو مسطور دون عناء.

وسواء اتفقنا على ما تقدم أم لم نتفق فأبو القاسم الشابي الذي لم يعش أكثر من خمس وعشرين سنة (1909 ــ 1934) شاعر تَفَرّدَ في مكانته الشعرية، وامتازَ عن نظرائه.. فهو كون شعري جديد تميز من الأكوان الشعرية الأخرى التي كانت سائدة في الثلث الأول من القرن العشرين، إذ كان له بناؤه الفني الخاص.. استفاد من الموروث اللغوي والشعري، ولكنه سكب على هذا الموروث لغته المتمردة، الثائرة والأليفة التي تعانق شَغاف القلب وصميمه، وخلجات الروح والطبيعة عبر أشكالها الزاهية الجذابة.. وصب شعره في قوالب الشعر العمودي، إلا أن الشابي، معاً وفي آن واحد، ثار عليها، فأخذ منها الشكل، وفارقها في أغلب محتواه الشعري، وخلع عليها إيقاعه الموسيقي الحساس المتناسق والمتناغم مع إيقاعات الحياة وصورها اللامحدودة.. ومع إيقاعات الوجود الخلاب.. فكانت له صوره الشعرية الخفّاقة المغرّدة في أجواء فسيحة حاملة بين أجنحتها الأصالة والجدة والرؤى الحالمة…

ونتقدم خطوة، فنقول، ولا غضاضة علينا: أبو القاسم الشابي نسيج وَحْدِه، وإن كان يُعَدُّ واحداً من رواد الشعر الرومنسي في الأدب العربي، وهذه الجملة ليست على سبيل المبالغة والمجاز، فالشابي يفترق عن جميع الشعراء العرب الرومنسيين في مسألتين أساسيتين: الأولى تتبدّى في أن الشابي كان رومنسياً في كل شيء، شعراً وحياةً ومماتاً.. والثانية تتجلّى في إخلاص الشابي ووفائه، حتى لحظة رحيله، للمذهب أو للمدرسة الرومنسية.. ومن ثم لمدرسته (الشابية) الذاتية الوجدانية الخاصة، بعد أن غادر مدرسة أبوللو، وخرج من نطاق الشعراء المهجريين، وذلك على صعيد الألفاظ والعبارات والأسلوب والمحتوى والآفاق الإنسانية الرحيبة والروح الوطنية الحرّة الملتصقة بالواقع العربي عموماً، والواقع التونسي خصوصاً…

ونتقدّم خطوة أخرى قائلين: أبو القاسم الشابي شاعر الإنسانية والحرية والوطنية والانبعاث العربي، رفض الظلم والقهر.. وناهض الطغاة والمستبدين.. واستنهض فينا الكرامة، وإرادة الحياة الكريمة، والأمل بفجر جديد..

أَلَا أيّها الظالمُ المستبد

حبيبُ الظلامِ، عدوُّ الحياهْ

سخرتَ بأنّاتِ شعبٍ ضعيفٍ

وكفّكَ مخضوبةٌ من دماهْ

رويدكَ! لا يخدعنْكَ الربيعُ

وصحوُالفضاءِ،وضوءُالصباحْ

حذارِ! فتحْتَ الرمادِ اللهيبُ

ومن يبذر الشوكَ يجنِ الجراحْ

تأمّلْ هنالكَ.. أنّى حصدت

رؤوسَ الورى، وزهورَ الأملْ

سيجرفكَ السيلُ،سيلُ الدماءِ

ويأكلكَ العاصفُ المشتعلْ

وأبو القاسم الشابي، في الوقت نفسه، شاعر الحبّ المصفّى، والعشق المعنّى، والعاطفة الدفّاقة الملتهبة الحميمة.. شاعر الخيال المجنّح الطليق، والوجدان المرهف.. والأحاسيس والمشاعر التي تفيض سمواً وروحية ورومانتيكية.. وشاعر الفضاء اللغوي الرقيق الشفّاف المندّى…

افتتن الشاعر أبو القاسم الشابي بالمرأة وجمالها، وسما بهما سمواً صوفياً رومنسياً.. فأخرجهما من الواقع المحسوس، ولاذ بعالمهما السحري البديع، والمزدان بألوان الطيف.. فالشابي لم يجعل المرأة جسداً يقوّم بما فيه من تضاريس مختلفة، أي أن الشابي لم ينظرإلى المرأة وجمالها نظرة مادية حسية خالصة، فهو لم يتحدث عن القشرة الخارجية للمرأة بصيغة غرائزية مثيرة.. ولم يبرز جسدها ومفرداته الفاتنة بشكل بيولوجي تكمن الرغبة المحضة في ثناياه.. كما فعل الكثير من الشعراء قديماً (امرُؤُ القيس ـ النابغة الذبياني ـ عمر بن أبي ربيعة..) وحديثاً (الأخطل الصغير ـ نزار قباني ـ ممدوح السكاف..).

وفي رائعته، بل في رائعة الشعر العربي الحديث (صلوات في هيكل الحبّ) يتسامى الشابي بحبه للمرأة وجمالها، ويحيلها صورة مثالية مجردة نورانية صوفية رومنسية مشرقة يرفع فيها من شأن الروح ويقلل من قيمة الشكل، فما قيمة الحسن والفتنة في جسم مظلم الروح معتم السريرة..؟

المرأة الجميلة حقاً، والمرأة (العذبة) حقاً هي التي تمتلئ نفسها صفاء ووداعة ورقة وحناناً.. وهي التي يشع قلبها وروحها نقاء ونوراً وإشراقاً.. هي مَنْ تنوع الزهر في روضها شكلاً ولوناً وعبيراً.. وهي من يكون لجمالها وعذوبتها أبعاد معنوية تتجسّد في معطيات اجتماعية ووطنية وإنسانية.. فالجمال الحقيقي ليس مفاتن جسدية وتضاريس خارجية فحسب.. وإذا ما تَوَالَفَ الشكل والمضمون في وحدة كلّية كانتْ لدينا امرأة مُنْفَرِدة، مُتَفَرِّدة وفَرِيدَة تجعلنا نهوى الحياة ونستحقّها…

وقبل أن ندوّن بعض أبيات هذه القصيدة البديعة الحالمة.. نودّ أن نشير إلى أن قصيدة (صلوات في هيكل الحبّ) حينما أرسلها الشابي إلى مجلة أبوللو (كما ورد في كتاب: أبو القاسم الشابي شاعر الشباب والحرية، للأستاذ طه عبد الباقي سرور) كان الدكتور أبو شادي ينشدها وهو يرقص طرباً، ويهتز حبوراً، هاتفاً: هذا هو الشعر الذي نشدناه ونشده مَن قبلنا، فضلّوا الطريق وضللنا، حتى ظفر به الشابي

 وحده من دوننا..:

عذبةٌ أنتِ كالطفولةِ،

كالأحلامِ،كاللحنِ، كالصباحِ الجديدِ

كالسماءِ الضحوكِ، كالليلةِ القمراءِ،

 كالوردِ، كابتسامِ الوليدِ

أنتِ، ما أنتِ؟ أنتِ رسمٌ جميل

عبقريٌّ من فنّ هذا الوجود

آهٍ.. يا أبا القاسم، أين هذه المرأة؟ لقد رحل الشتاء والربيع، ومضى الصيف.. والخريف يحبو على ما تبقى من جذوتنا.. وهذه المرأة ــ الحلم التي ما برحتْ تعرِّش في أبهاء القلب، وفضاء الروح، ويحنُّ إليها الوجد على مدار العمر ويهمي.. هذه المرأة يا أبا القاسم ما زالتْ مجهولة الهوية والعنوان.. وما زالت الدروب إليها يلفّها الضباب..؟!

العدد 1105 - 01/5/2024