تجربة فنية تهرب من التأطير

مجدي الحكمية.. الألوان مفاتيح أولى لقراءة اللوحة

كلما التقيت الفنان مجدي الحكمية  تذكرت (البدائي) العظيم هنري روسو، لا بسبب تشابه أعمالهما، ولا بسبب عدم دراستهما في معهد فني أو أكاديمية، وليس بسبب الوظيفة الأساسية لكل منهما – الجمارك- بل تلك البدائية المتجلية في العمل، وذلك السحر، سحر المخيلة. ذلك ما قرأه ذات يوم الفنان التشكيلي نزار صابور في سحر المخيلة عند الفنان التشكيلي مجدي الحكمية.

صوب التفاصيل

وإذا ما ذهبنا صوب التفاصيل أكثر، فإن اللوحة التي يطلق عليها (بؤسمل) يقرر خلالها الحكمية الانحياز الكامل إلى الجمال، ففي تكوينها يعتمد الفنان التشكيلي على ساحة الدائرة المغناطيسية الذهنية لديه، مع مراعاة تحريك عناصر اللوحة ضمن أسلوبه الخاص، والمرأة في هذه اللوحة عنصر مهم لديه، شأنه في ذلك شأن أغلب الفنانين في العالم، فهي الملهمة وهي المحرضة وهي المحرك الأساس لمشاعره، وهي المصادفة الموضوعية التي تبعث فيه ضياء الحب من خلال سحرها وسحر حضورها اللافت، كما تبعث فيه شعاعاً غريب الوصف، ولذلك نجده في اللوحة أسيراً لهذه اللحظات الرائعة ولهذه الإشرافات الآسرة، فالحب الحقيقي لا يصدر إلا عن فيض من تبادل العطاء، ومن دون هذا العطاء يظل عاجزاً بقدر محدود عن تقبل الآخر.

 في تنفيذ اللوحة يستخدم الحكمية عدة تقنيات منها )الألوان الزيتية والسكين و…(، أما الألوان فهي متناغمة جريئة منسجمة رغم هذا الجمع بين أقصى درجات حرارة اللون إلى أقصى درجات برودته، وبلمسات متفاوتة من الناعمة إلى الواضحة، وبتكنيك خطوط حفر طويلة على الألوان الزيتية أعطى اللوحة خصوصية، كما أدخلها في رونق خط اللامحدود، أما الخطوط العامة للوحة فكانت ما بين اللينة والحادة، وهذا إن دل فإنه يدل على صدق الفنان من تلقائية وعفوية أثناء تكوين اللوحة.

إذاً، (الإنسان) بمكوناته التشكيلية من خطوط وتلوين وتحوير يتماهى في الصورة البصرية للعمل ككل، وهذا يقودنا إلى تركيب العمل بمجمل عناصره، هذا التركيب المبني على الإحساس العفوي والتلقائي، لأن السجية هي الضابط في الخلق الفني مضافاً إليها، بلا شك، الموهبة، مما يسبغ على العمل الفني المصداقية، لهذا يأتي النتاج متوافقاً مع الذائقة الجمعية، فيستقبله المشاهد بكل هذه الأريحية..

 ويتضح من شخوص الحكمية التي يرسمها بتشكيلات مختلفة أنه يقدمها بإحساس تعبيري ووجداني في تكوينات متجاورة في أحيان، ليبعث فيها الروح التائهة في فوضى ومجاهل اللاجدوى.. وأحياناً أخرى يقدمها في تكوينات متداخلة بإحساسه الشخصي ليبعثر الألم والقهر على شدتيهما، وليبني فكرته على أساس من التجربة والخبرة الناتجة عن الاحتكاك المباشر بأصناف مختلفة من البشر..

أمام مساحة اللوحة

من هنا فإن أعمال الحكمية تبدو ظاهرة ذهنية تتضمن معاني شديدة الوضوح، بالرغم من حداثتها وغرابتها، إذ يشير في لوحاته إلى أي مدى يشعر الفنان أنه غريب عن ذاته. التلقائية التي تسيطر على مكونات العمل الفني لدى الحكمية مصدرها رغبة جامحة في خوض غمار الخط واللون أمام مساحة اللوحة البيضاء وهي تستثير كوامنه الدفينة، فلا يستطيع إلا تلبية المشاعر المفعمة بالحب لعالم الجمال العفوي بعيداً عن النواميس الوضعية.

البورتريهات التي يشتغل عليها الحكمية تأخذ من الأدب هواجسه، فهو يجسد فيها الحالة الرومانسية، بترجمة الأحاسيس التي لها علاقة بشغف المكان وروحه، وشغف الحكاية، بورتريهات كحالات تضعها في لحظاتها الحميمية مع الناس، تزيد في قوة الحالة الإضاءة الشديدة، التي تفعل فعلها الإيجابي في تسطيع اللون وإبراز جمالياته.. وجوه حالمة تبحث عن واقعٍ جديد، مع ذلك هو لم يدخل في تفاصيل الوجه، إلا لجهة التبسيط، وإبراز الحالة الحلمية والرومانسية، و.. يزيّن كل ذلك بحالة بصرية أخرى، هي الزخرفة وحشد الرموز دون إرهاق للوحة، وتخيّل الموروث، فالأسية الغالبة على الوجوه، كالمرأة التي تسقط وتسقط عنها الأقنعة مرة ثانية وثالثة، والحمامة التي تحط على كتف المرأة، وغيرها من رموز تتكرر..

ويمكن أن نقول إن أكثر ما يبرر هذه التشكيلات والرسوم عند الفنان الحكمية أنها تعني محاولة للتأليف التدريجي بين أشد الرؤى تصارعاً، بل أشد الرؤى توتراً وتفرداً، تبدو صوراً حسيّة عن عالمه المسحور وضرب من الاستباق المحسوس، لأنه يحمل في داخله شكلاً من أشكال استعادة امتيازات الطفل ضمن حالة من حالات الوعي الأكثر عمقاً، وشكلاً من أشكال الوجود الذي يستمد قيمته الكاملة من كونه يحتفظ بآثار مجده الأصلي ومستقبله الإنساني. أما الحياة الواقعية فهي باهتة وبائسة بالنسبة له، وليست فردوساً كما يعتقده البعض عنه، بل على العكس إنها تحمل هيئة خرائبية واضحة في أعماله، وكأنه يعيش على ركام الفردوس، إلا أنه يرفض فكرة السقطة في تشكيلاته التأملية، ولكن تيار فكره لا ينفك يدفعه إذا صح القول إلى شواطئ الأسطورة، إذاً فهو يسعى إلى استرداد تشكيلاته وصوره العجيبة. ومثل هذه الصور والتشكيلات تجذب المشاهد بسحرها العظيم.

 كما أننا نجد في الألوان التي تشكل وسيلة الاتصال البصري مفتاحاً أولياً لقراءة العمل التشكيلي، الإيقاعية المتناغمة في الألوان الحارة والباردة، هذه الإيقاعية تتفاعل أكثر في العناصر الأساسية.. ليؤكد الفنان مجدي الحكمية مقولة العمل التي يطرحها إيذاناً بالتواصل البصري مع المتلقي المتعطش لنمط يخرجه من رتابة الحياة اليومية وهمومها..

واللون هنا هو انعكاس للحالة الداخلية للشخوص، محمّل بالإسقاطات النفسية، وهذا ما يفسر بنية العمل التي تظهر متكاملة في نواحيها المختلفة من فكرة وخط ولون وتكوين، مضافاً إليها الإحساس المفعم بالدفء والحميمية.

العدد 1104 - 24/4/2024