هل الرأسمالية مهدّدة فعلاً.. بالانهيار؟! (2)
أمكن للرأسمالية في عقد التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة أن تحقق ازدهاراً وتقدماً ترافق مع التطور العلمي والتقاني، مما دعا بعض الاقتصاديين إلى الإعلان عن ولادة عصر جديد (عصر الاقتصاد الجديد) اقتصاد التكنولوجيا الجديدة والاتصالات الحديثة، وقد زعموا أن هذا الاقتصاد سيحقق الازدهار المستدام. وظهرت أنواعاً جديدة من الشركات التي تعنى بشؤون المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، وحققت نجاحات هامة أدت إلى ارتفاع أسهمها في البورصة على نحو غير مسبوق، كما أدت إلى خلق فئة جديدة من رجال الأعمال الشباب الذين أصبحوا يملكون مئات المليارات من الدولارات بفضل الارتفاع الجنوني بقيمة أسهم شركاتهم في الأسواق المالية.
ولم تعد شركات الإنتاج هي التي تحدد مسيرة الحياة الاقتصادية، بل أصبحت الشركات الغنية، شركات ما يدعى (الاقتصاد الجديد) هي التي تتولى قيادة الاقتصاد، وتحدد مساراته، ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما في أوربا وآسيا لاحقاً، وأصبح الجميع على قناعة أنه بالإمكان تكاثر المال بلا حدود، وابتكر أصحاب الاقتصاد الجديد نظرية بعنوان (تعظيم الأسهم) معياراً لقيادة الشركات، وانتشر الاعتقاد بأن النجاح في البورصة هو المطلوب أولاً وأخيراً، وأصبح ما يحرك قادة الشركات في نهاية المطاف هو التهافت على كسب الأرباح ودمج الشركات، حيث تلعب المصالح الشخصية الدور الأكبر في عمليات الدمج.
هذا إلى جانب هيمنة المصارف الاستثمارية التي تعمل برساميل مقترضة في المقام الأول، فتحقق عن طريق الاستدانة أعظم الأرباح، لكنها في المقابل تتحمل مخاطر عظيمة في حال تدهور أوضاع الأسواق المالية، وهي تعمل دون مراعاة لمصالح صغار المدخرين ولا يردعها أي رادع أمام رغبتها المحمومة في المضاربة.
وأمام (الازدهار) الذي تحقق للرأسمالية في ظل الاقتصاد الجديد والتطور التكنولوجي والمعلوماتي، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وفشل تجربته الاشتراكية، فقد اعتبر أنصار حرية السوق والليبرالية الاقتصادية الجديدة، أن ذلك يعني نهاية التاريخ، الأمر الذي نظر له الكاتب والسياسي الإسرائيلي فوكوياما في كتابه الشهير، الذي أكد فيه أن الديمقراطية الليبرالية انتصرت انتصاراً لا رجعة فيه، وأنها كانت النهاية المنطقية لعملية طويلة حددت معالم نهاية التاريخ.
لكن هذه النهاية لم تأتِ، وهي لن تأتي في المستقبل أيضاً، ذلك أن التاريخ مسيرة دائمة ولن ينتهي بنهاية نظام ما، ولا أدل على ذلك من أن الازدهار الذي تحقق للرأسمالية في ظل الانفتاح والاقتصاد الحر والأسواق المنفلتة، لم يستمر طويلاً، فها هي أزمة الرهون العقارية تطل برأسها لتقتلع الأسس التي بُنبت عليها سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة. ففي خريف 2008 عصفت بالاقتصاد الرأسمالي العالمي الأزمة المالية والاقتصادية التي لاتزال تداعياتها تضرب اقتصادات العالم الرأسمالي والاقتصادات التابعة له، وقد تناول الاقتصاديون والسياسيون هذه الأزمة بالتحليل (1)، كما تداعت حكومات العالم للنظر في معالجة الأزمة وأسبابها، وكان هناك بالطبع اختلاف في وجهات النظر في تشخيص الأزمة وسبل معالجتها، وفقاً للتفاوت في قراءتها حسب الانتماءات الفكرية والأيديولوجية، فضلاً عن الولاءات وما تمليه من مصالح. لقد شهد العالم النتائج الكارثية للأزمة داخل الولايات المتحدة وفي العالم أجمع: إفلاسات وانهيارات لمصارف كبرى ولشركات عملاقة ولمؤسسات مالية عريقة، وبطالة أصابت مختلف القطاعات، وعُجوزاً في الموازنات العامة وفي الموازين التجارية.
إن هذه الأزمة تعود بجذورها إلى طبيعة النظام الرأسمالي في تطوره التاريخي، وفي تحول المجتمع الصناعي إلى مجتمع معلومات، وظهور نمط جديد من الرأسمالية هو (الرأسمالية المعلوماتية)، فضلاً عن التطور الحاصل في الرأسمالية ذاتها، من رأسمالية المنافسة إلى الرأسمالية الاحتكارية والانتقال إلى الرأسمالية المعلوماتية، يعني الانتقال من التركيز على الإنتاج المادي إلى التركيز على إنتاج العلامات والصور والأوراق، مستفيدة من التطور الحاصل في الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، وأدى ذلك إلى تخلي الدول الصناعية المتقدمة عن صناعات عديدة، إما بسبب أثرها الملوث للبيئة، وإما بسبب حاجتها إلى يد عاملة كثيفة. وفي المقابل توسع القطاع المالي والخدمات المالية، كما برزت نزعة السيطرة على مصادر الطاقة، خصوصاً النفط والغاز، وازدادت حمى المضاربات بالعقود الآجلة وبأسعار المواد الغذائية خصوصاً بعد ظهور إمكانية استخدام المواد الغذائية في توليد الطاقة.
وكان من أهم تداعيات الأزمة، العنصر الإعلامي، الذي لعب دوراً بارزاً في نشرها واتساع نطاقها والترويج لحلولها. وقد لعب المديرون والتكنوقراط في المصارف والشركات عابرة القوميات الدور الأهم في استفحال الأزمة، في سعيهم المحموم لاكتساب الأرباح والمضاربة في أصول المودعين، وانسحب هذا العامل إلى إدارة البنك الفيدرالي الأمريكي التي سمحت بالمزيد من الممارسات المصرفية، وخاصة في مجال استخدام المشتقات من السندات، وغض النظر عن مفاعيل فتح أبواب الاقتراض العقاري دون قيود، إلى جانب مسؤولية الإدارة الأمريكية في تبنيها غير المسؤول للسياسات الاقتصادية الانفتاحية وترك الأمور (لليد الخفية) في قيادة الاقتصاد وترك الأسواق المنفلتة دون قيود.
وقد تساءل العديد من الباحثين الماليين والاقتصاديين والساسة عن السر الذي غيب النتائج الكارثية لهذه السياسات عن أذهان المسؤولين الماليين والاقتصاديين في الإدارة الأمريكية وفي البنك الفيدرالي على وجه التحديد أو عقولهم.
وفي هذا الإطار ومن باب الاهتمام أو الفضول، حضرت الملكة إليزابيت إلى مدرسة الاقتصاد اللندنية، والتقت مع أساتذة الاقتصاد، وطرحت عليهم التساؤل حول السبب في عدم توقع الأزمة نتيجة للسياسات المالية والاقتصادية التي اتبعت، وقد استمهل أساتذة الاقتصاد الإجابة ريثما يتمكنوا من الدراسة والبحث، وبعد ستة أشهر تقدم أساتذة الاقتصاد بتقرير خلاصته أن عدم توقع الأزمة يعود إلى غياب (الفكر والخيال).
لكن هذا لم يمنع رجال السياسة وقادة الاقتصاد من محاولة امتصاص آثار الأزمة، ببرامج المساعدات التي قُدمت إلى المصارف والمؤسسات المالية الكبرى، وببعض الإجراءات السطحية داخلياً، وبالدعوة إلى إدارة الاقتصاد العالمي من قبل مجموعة العشرين التي شملت إلى جانب الدول الصناعية المتقدمة، الدول الصاعدة، وبعض الدول النامية الغنية كالسعودية، بهدف تحميل هذه المجموعة (بدلاً من الانفراد الأمريكي) مسؤولية ما سيصيب الاقتصاد العالمي من كوارث نتيجة الممارسات الإسرائيلية وبسبب عنادها بعدم التخلي عن هيمنتها، وبالتالي فقد اتبعت إلى جانب إجراء مجموعة العشرين، أساليب وإجراءات من شأنها إعاقة التحول من قيادة القطب الواحد إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، وذلك بانتقال المشكلات ومنع صعود الصين وروسيا، وإفشال عمليات التحول في أمريكا اللاتينية.
لكن الأخطر من ذلك هو ما تفعله حالياً في منطقتنا، فقد كانت داعمة أساسية للأنظمة الاستبدادية التي كانت شعوبها تعاني ما تعانيه من ظلم وطغيان، إلى جانب الضغوط المعيشية والبطالة، بسبب السياسات الاقتصادية الموصى بها من قبل المؤسسات والمنظمات الدولية والشركات متعدية الجنسية، تحت ضغط وإيحاء السلطات النقدية والمالية والسياسية في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي، وقد غاب عن أذهان هؤلاء جميعاً وبضمنهم السلطات في دول المنطقة العربية، ما قد ينجم عن انتهاج هذه السياسات الاقتصادية المدعمة بالممارسات الأمنية من نتائج اجتماعية قادت إلى حركات الاحتجاج التي كان من تفاعلاتها وأساليب التعامل معها أن صعد الإسلام السياسي وركب الموجة التي سارعت الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة إلى تبني التحول نحو الإسلام السياسي مستخدمة في ذلك ما لديها من مخزون معلوماتي عن الحركات الإسلامية، ومستغلة علاقات قديمة مع بعض أجنحتها، ومولدة لحركات جديدة وفصائل قتالية أفرزتها الأحداث..
لقد كانت هذه فرصة جديدة للولايات المتحدة في إشعال نار الحروب الإقليمية للاستفادة من كل ذلك من أجل تنفيذ جدول أعمال جديد من شأنه خدمة مصانع الأسلحة وتحريك عجلة الاقتصاد لديها وتشغيل آليات وأدوات نظامها الدولاري لخدمة أغراض الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية لديها، ولتأكيد دورها الريادي في قيادة النظام العالمي، مع السعي الحثيث لتقليص فرص ظهور اقتصاد عالمي متعدد الأقطاب، والحد من فرص صعود الدول الصاعدة، والقضاء نهائياً على آمال الشعوب في البلدان النامية بتحقيق تنمية عادلة ومستدامة.
******
(1)- كتبنا عن هذه الأزمة في جريدة (السفير) بالعددين الصادرين في 29 و31/12/،2008 وفي العدد 63 من مجلة المعلومات.