هموم عمال البناء ومشاكلهم تستحق النظر

 واصل مؤشر غلاء الأسعار ارتفاعه في السوق السورية إلى درجة لم تعد تُحتمل من قبل المواطن، وتعدى المنطق ذلك الغلاء المستغل الذي وصل إلى كل المجالات، فابتداءً من الاحتياجات الأساسية للمواطن وصولاً إلى الكماليات، أصبح المواطن السوري رهينة طمع التجار وأصحاب المهن، والحجج (جاهزة) في كل تبرير من الذين يتحكمون في السوق، من الدولار إلى وقف الاستيراد والعقوبات الاقتصادية وصعوبة التنقل بين المحافظات، ما جعل المواطن حائراً وينتظر انفراجاً في السوق السورية.

ومن المنطقي أن تكون الأزمة التي تمر بها سورية (غير مسبوقة) في كل شيء، ومن الطبيعي أن تؤثر العقوبات الجائرة والحصار الدولي والعربي الظالم على سورية في حياة المواطن وتحاصره في أكله وشربه، فالأحداث التي تعيشها سورية هي حرب طاحنة مع القوى الاستعمارية وأدواتها العربية التي وضعت نصب أعينها تدمير الوطن الذي لن يستجيب لمحاولة إركاع سورية الممانعة والمقاومة، لكن في صلب الموضوع تحكّم أسعار السوق في معيشة المواطن، وهناك بعض المهن ليس لها علاقة بتلك الأسباب المذكورة، من هذه المهن عمال البناء كالطيان والدهان والمعمرجي والتمديدات الصحية والكهربائية وغيرها، والمشكلة ليست في أسعار المواد بل في ارتفاع أجور عمال البناء على اختلاف أعمالهم، وذلك دون ضبط من أي جهة تذكر.

من الملاحظ بشكل واضح أن أجور عمال البناء ارتفعت ارتفاعاً كبيراً مقارنة بفترة ما قبل الأزمة وهي ترتفع من شهر إلى آخر، فكان متوسط أجرة عامل البناء في أي مجال بحدود 500 ل.س يومياً، بينما تتراوح أجرته حالياً بين 1000 و1500 ل.س مسجلة ارتفاعاً في أجرة العامل إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بالسابق.

ويؤثر غلاء أجور عمال البناء وغيرهم من ذوي المهن المرتبطة بذلك، حسبما يرى تجار العقارات والمتعهدون، في تشييد الأبنية والعقارات الذي كان قبل وجود أزمة يسجل ارتفاعاً في الأسعار، والأزمة الحقيقية هي ارتفاع أجورهم إلى مستويات يصعب معها دفع أجورهم، بسبب استغلالهم نقص الأيدي العاملة والتحكم بمستوى أجورهم.

يقول أحد المتعهدين في منطقة الزقزقانية بأن ارتفاع تكاليف المعيشة لجميع المواطنين أمر واضح ويؤثر بشكل مباشر في أجور عمال البناء، وذلك أمر طبيعي، ويضيف بأن (معلّمي البناء) رفعوا أجورهم وأجور العمال بما يتناسب مع الوضع المعيشي والأسعار المرتفعة، وهناك سبب آخر أساسي هو أن كثرة مشاريع البناء في عدة مناطق من المحافظة وخصوصاً مناطق المخالفات شكل حافزاً لأصحاب تلك المهن لرفع أجورهم في ظل شح الأيدي العاملة ووفرة الطلب عليهم.

ويشير السيد رامي الذي يعمل متعهد بناء في منطقة سقوبين إلى أن ارتفاع الأجرة اليومية للعامل وعموماً أجرة متر البناء وصلت إلى مستويات غير مسبوقة ستنعكس بشكل مباشر على سعر تكلفة متر البناء، وذلك سيؤدي بشكل مباشر إلى رفع تكلفة بناء المساكن ومشاريع البناء بما يتوافق مع ارتفاع أجرة العمالة، وأوضح أيضاً أن أي متعهد في أي مشروع سيواجهه هذا الارتفاع في الأسعار برفع تكلفة البناء على الزبون أكثر من 10 %.

التقينا بعض تجار العقارات وتحدثنا معهم في تلك المشاكل وأسبابها، فارتباط أجور عمال البناء والمهن الأخرى تؤثر مباشرة في ارتفاع الأسعار الجنوني للعقارات وحتى لبيوت الإيجار، يُجمع تجار العقارات على أن أجور العمالة، إضافة إلى أسعار الأراضي فضلاً عن مواد البناء جميعها في ارتفاع، وذلك سيضاعف أعباء أخرى على الراغب في شراء مسكن، وهو يعاني أصلاً من ارتفاع أسعار المساكن فيما مضى، وبالتالي تصاعد أجرة البيوت التي واصلت مسلسل صعود قيمتها إلى أسعار خيالية في ظل محدودية العرض في الوقت الحالي مقابل زيادة كبيرة في الطلب، بسبب الأحداث الأخيرة التي تعيشها سورية ونزوح أعداد كبيرة من العائلات السورية من المناطق الساخنة كحمص وإدلب وحلب.

… وللعمال رأيهم ومعاناتهم

من ناحية أخرى لابد من سماع وجهة نظر عمال البناء، فأصحاب تلك المهن لهم همومهم وأسبابهم التي تدفعهم لطلب أجور أعلى:

كفاح (معلم تمديدات صحية) يقول بأن وضع اللوم على عمال البناء فيه كثير من الظلم، فبغض النظر عن ارتفاع مواد البناء بحد ذاتها، ارتفاع أجورنا طبيعي ليتناسب مع الغلاء الجنوني للمعيشة، فالعامل بالدرجة الأولى مواطن متأثر بما يجري في محيطه، وهو جزء من دائرة الأزمة. ويؤكد كلام كفاح العديد من عمال البناء في مهن أخرى، فيقول أبو حيدر (عامل بناء) بأن الجهد العضلي الذي نقوم به من (عتالة) وغيرها يستحق تلك الأجرة وأكثر من ذلك، بغض النظر عن الوضع المعيشي السيئ لنا، ويؤكد أبو حيدر أن معظم عمال البناء من الطبقة الفقيرة التي تحتاج أن تطعم أولادها وتكسوهم في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد، وفي كلام رامي وأبو حيدر جزء من الحقيقة، والحق بأن الأسباب التي ذكروها منطقية كما يقول مازن الذي حاول أن يعمل في هذه المهنة، فمازن أجبرته ظروف الحياة أن يترك دراسته بسبب ظروفه المادية ليبدأ العمل دهاناً، ويقول مازن إن كل المهن المتعلقة بعمال البناء مهن متعبة ويعمل بها (الدراويش)، ويجب تنظيم عمل تلك الفئة كي لا يستمر المتعهد وتاجر العقارات في استغلال هذه الفئة، فمن غير المنطقي محاسبة (عامل البناء) على تحكّمه في أجرته وعدم الحديث عن جشع تجار العقارات والمتعهدين.

لا يشمل تلك المهن أي نوع من التأمين المطلوب، وليس الحال كما في باقي المهن، ولا تمثلهم أية نقابة تحمي حياتهم، خصوصاً أنهم يتعرضون للكثير من المخاطر ويبرر (معلّمو البناء) رفع أجورهم  من منطلق أن مهنهم لا يشملها أدنى تأمين رغم ما تحمله من مخاطر ولا يتم إبرام أي عقد مع صاحب البناء خلال فترة عملهم ما يرتب عليهم المسؤولية الكاملة عن أي طارئ قد يتعرضون له، كما يتعرض العامل لمخاطر كبيرة يمكن أن تودي بحياته أحياناً أو تؤدي إلى إعاقة، إضافة إلى كل ذلك يبقى غلاء المعيشة في سورية نتيجة ارتفاع الأسعار هو سبب أساسي أيضاً.

وتبقى لمشكلة ارتفاع أجور عمال البناء أسبابها ومشكلاتها المتعددة، لكن بالنظر إلى حياة تلك الفئة المهمة التي تستحق الحديث عنها بإسهاب، يمكن القول بأن عمال البناء يما يقدمونه من جهد في ظل وضع معيشي سيئ على معظم السوريين، يحق لهم بشكل أو بآخر أن يتحدثوا عن حقهم المشروع في رفع أجورهم، لكن لابد من ناحية أخرى لضبط (جشع) البعض من أصحاب تلك المهن عن طريق قوانين تنظّم عملهم بشكل أفضل من القوانين الحالية، وتنظر إلى حقهم الطبيعي بالاعتراف بهم بأنهم على أرض الواقع لا يختلفون عن أية مهن أخرى.

العدد 1107 - 22/5/2024