لن تنكّس الراية التي حملتها

وجه إنساني كبير يغيب في حلكة الظلام.. بعد أن أضاء جوانب مظلمة من حياة الكثيرين من أبناء شعبنا ووطننا، وقد ترك رحيله المفاجئ صدى واسعاً ومؤلماً لكل من عمل معه أو عرفه. عرفته منذ السبعينيات في حومة العمل الحزبي والسياسي، ولم ينقطع عملنا طيلة تلك السنوات الطوال في مجالات مختلفة، حتى قبل رحيله بيوم واحد، رغم بعض الاختلاف في وجهات النظر من هذه القضية أو تلك. فقد كان يحترم الرأي الآخر بعيداً عن أية نزعة تعصبية، الأمر الذي طبع مجمل مواقفه.

كانت عائلته تسكن في حي الطبالة الشعبي، أحد أحياء دمشق، بعد أن غادروا بلدتهم (خرَبا) إحدى القرى الواقعة بين حوران والسويداء إلى دمشق، طلباً لإكمال التعليم والعمل.. وكان باسم قد تخرج حديثاً في كلية الآداب والعلوم الإنسانية- قسم الجغرافيا.

والتحق بالتدريس في الثانويات بعد تخرجه لأكثر من خمس سنوات، وقد أفردت له العائلة غرفة صغيرة في المنزل بعد زواجه من بنت بلدتهم سميرة الصدي.. فقد كانت العائلتان متجاورتين أيضاً في دمشق، وكانت سميرة الشابة الممتلئة نشاطاً وحيوية وتطلعاً إلى المستقبل تعمل في شركة الشرق للألبسة الداخلية عاملة ونقابية وفي لجنة المرأة العاملة.

عاش باسم في أجواب تمايز طبقي حاد جداً، فقد كان أبوه إبراهيم عبدو يعمل لدى الإقطاع من آل الأطرش في منطقتهم (خرَبا) في ظروف صعبة ومعقدة وشاقة، وكثيراً ما كان يتعرض لصنوف شتى من العذاب تصل أحياناً إلى الضرب بكعب البارودة أو بأدوات زراعية حادة، وكانت هذه الأفعال الشنيعة تُواجه بغضب شديد من أهالي القرية.

رغم ما كان يتمتع به هذا الأب من نشاط في العمل ودماثة الخلق والبساطة وحبه للآخرين خاصة أبناء بلدته الذين يعملون مثله، كان يحسن القراءة والكتابة، وينظم بعض الأبيات من الشعر الشعبي وبعض الأشعار الذي حفظها عن ظهر قلب.

ومن هنا ربط باسم مصيره بمصير الكادحين من أبناء شعبه وهو في يفاعة الشباب.. كان رمزاً لجيل اتسم بالثورية والوفاء والإخلاص والجاهزية لمواجهة متطلبات النضال الوطني والإنساني، فالتزم بالحزب الشيوعي السوري في السنوات الأوائل من السبعينيات، ومن موقعه الطبقي أسهم بنشاط في إبراز الوجه الطبقي للحزب بوصفه حزباً للطبقة العاملة والفلاحين وحلفائهم المباشرين من كادحي المدينة والريف والمثقفين الثوريين، وإبراز دورهم في عملية التغيير الثوري.

وقد رافقته زوجته سميرة في دربه الطويل، وتحمّلت معه العذاب والمعاناة وسنوات الغياب الطويلة.. فقد عمل لسنوات مدرساً في ثانويات محافظة الحسكة، وبعد ذلك التحق بخدمة العلم، فأرسل إلى لبنان ضمن قوات الردع، آنذاك لأكثر من ثلاث سنوات ونصف، وكانت زوجته توزع أوقاتها ما بين العمل والبيت الذي أصبح يضم أطفالاً ثلاثة..

وبعد ذلك استقر في دمشق، كانت غرفته الصغيرة تضيق بالاجتماعات واللقاءات وتداول الأمور في النشاط الحزبي، وزوجته تقوم بما يلزم من مساعدات. كان أبو شفيع يملك حباً أصيلاً للإنسان، مدافعاً صلباً عن الحق والعدالة، مدافعاً بامتياز عن قضايا المرأة وحقوقها، مثالاً للجرأة والإنسانية والقدرة والوفاء، بعيداً عن أية نزعة تعصبية لهذا أو ذاك، الأمر الذي طبع مجمل مواقفه.

حمل هموماً رافقته حتى الموت.. هموم جماهير شعبنا ومعاناة هموم الوطن الذي يواجه تحديات خطيرة، وكان حضوره دائماً مشعاً يستمد منه الآخرون الأمل.

بأي عاطفة وصدق كان يتحدث عن أولاده شفيع ولينا وجميلة، وأحفاده، وزوجته الرائعة التي كانت تعمل بصمت ونكران ذات والتي رافقته في مسيرته الطويلة، وكانت خير معين له في حياته والتي احتضنته بكل جوارحها في كل الظروف الصعبة التي مر بها، وأولاده الذين يكنون له كل مشاعر الحب والاحترام.

كان شجاعاً حتى اللحظات الأخيرة، لم يستسلم لوضعه المرضي، ولم ينحنِ أمامه، إلى أن هبت عاصفة الردى وكانت أقوى من أن يصدها.

خسارتنا بوفاة رفيقنا باسم كبيرة، خسارة مناضل اختزن تجربة نضالية غنية كرسها لخدمة الوطن والناس.

سنفتقد شخصه، لكن روحه ستظل حاضرة بيننا..

كانت رحلته شاقة، ولكنها أهّلته مع الأيام لأن يحتل مرتبة في الأدب وفي العطاء الأدبي الإبداعي.

تعازينا الحارة لعائلته الكريمة ولرفاقه وأصدقائه.

العدد 1104 - 24/4/2024