كيف تنهب بلداً؟

منذ بداية الألفية، وتحديداً في السنين الماضية التي جنّ فيها سعر النفط والمعادن، شكّلت افريقيا (الأفق الجديد) بالنسبة إلى الشركات العالمية الكبرى. في عصر الأسعار المرتفعة، جرى استكشاف النفط، ودراسة مشاريع لاستخراجه، في مناطق قاصية وغير مألوفة، كالدائرة القطبية والمياه الشديدة العمق مقابل البرازيل؛ غير أنّ أكثر الاحتياطات الجديدة الواعدة – نفطاً وغازاً – تركّزت في إفريقيا جنوب الصحراء: نفطٌ في انغولا وغينيا الاستوائية والكونغو، وغازٌ في موزامبيق وتنزانيا على الساحل الشرقي للقارّة.

تمثّل أنغولا نموذجاً لنمط استغلال الموارد التي يتمّ اكتشافها في هذا الجزء من العالم، وهي عملية يتيحها مزيجٌ من المصالح السياسية الدولية، وحكوماتٌ محلية فاسدة وغير وطنية، وتكنولوجيا الاستخراج الحديثة. انغولا، في الأصل، هي من الدول الأفريقية التي تشبه الكونغو الديمقراطي (زائير سابقاً)، الذي راج عنه انه (قد استلزم بذل جهدٍ ضخمٍ لكي يصير مواطنوه فقراء) لكثرة موارده الزراعية والطبيعية. أنغولا، بعد استعمار برتغالي مديد تلته حرب أهلية/ دولية مدمّرة، قفزت فجأةً، من كونها منتجاً صغيراً للنفط (أقل من نصف مليون برميل يومياً) في أواسط التسعينيات، إلى ثاني منتجٍ في إفريقيا – بعد نيجيريا – خلال أقل من عقد، والمنصّات أمام سواحلها تضخّ ما يقارب مليوني برميل في اليوم.

هذا التوسّع أتاحه دخولٌ متزامن لتشكيلةٍ من الشركات، تعكس خريطة صناعة النفط العالمية (من (توتال) الفرنسية إلى (شيفرون) الأمريكية و(بريتيش بيتروليوم) و(ايني) الإيطالية و(سينوبيك) الصينية…)، قامت بتطوير احتياطات انغولا بشكلٍ مكثّفٍ وسريع. في الظاهر، يبدو هذا الاستثمار نعمةً على البلد الفقير، ودخلاً كبيراً يتيح كل أشكال التنمية. وقد قامت أموال النفط، بالفعل، بـ (نفخ) الاقتصاد الأنغولي الذي أظهر نمواً هائلاً مع تدفّق العائدات إلى الدولة، وصارت المطبوعات الغربية تقدّمه كـ (نجمٍ) أفريقيّ صاعد، تريد كل المصالح الأجنبية (من البناء إلى التصدير) حصّة من (ازدهاره). هذه هي الصورة نفسها التي تقدمها شركات النفط في تقاريرها، المزينة دوماً بصورٍ لعمّال نفطٍ أنغوليين مبتسمين.

هذه المكاسب نفسها – ازدهار اقتصادي، عائدات هائلة تهطل فجأة على البلد، حلّ سريع لكلّ المشاكل – وعدت بها الشركات (والإعلام الذي يحابيها) تنزانيا وموزامبيق منذ اكتشاف احتياطاتٍ هائلة للغاز مقابل سواحلها. بمقاييس النقل البحري، تقع افريقيا الشرقية في موقعٍ مثالي لتصدير الغاز المسال إلى السوق الآسيوية؛ فقرّرت شركات أمريكية وايطالية أن تستخرج غاز موزامبيق بكميات ضخمة، وأن تنشئ معامل لتسييله وتصديره في السنوات المقبلة. حتى نفهم عامل الإغراء هنا، في تقريرٍ أخيرٍ لـ (ستراتفور)، يعد مصرفٌ غربي موزامبيق، وهي أحد أفقر بلاد العالم، أن اقتصادها سيزيد بمقدار 28 مليار دولار اذا ما تمّ استغلال إحدى مناطق الغاز فيها بشكلٍ كامل (كلّ اقتصاد موزامبيق، ذات الـ 25 مليون مواطن، لا يزيد على 14 مليار دولار حالياً، تضيف (ستراتفور).

ولكن، قبل السؤال عن وجهة انفاق هذه العائدات، المسألة الأساسية هي: من يقرّر كيفية ادارة هذه الثروة، ولأجل أي غاية؟ وهل تحتاج موزامبيق الفقيرة (أو هي حتى قادرة على استيعاب) دفقاً مالياً يفوق حجم اقتصادها بكثير؟ وهل الطريق الصحيح إلى التنمية هو في أن تستنزف مواردك كلّها دفعةً واحدة؟ وهل من المستحيل أن نتخيّل استغلالاً لهذه الثروات في الداخل، لا يقوم حصراً على التصدير؟ حتى اليوم، المعيار الوحيد الذي يقود ادارة الموارد في انغولا ونيجيريا وباقي بلاد افريقيا هو الربحية فحسب (مشاريع الغاز كالتي يخطط لها في موزامبيق، مثلاً، تصير اقتصادية كلما زاد حجمها). وفي بلدٍ كأنغولا، انتاجها النفطي صار يوازي انتاج بلدٍ خليجي، ما زال ثلث السكان فقط يحصلون على الكهرباء، وأكثرهم يستخدم – للتدفئة والطاقة – بقايا الأخشاب والمحاصيل وروث الحيوانات، كأي بلد أفريقي فقير. بل إن أكثر استهلاك أنغولا من مشتقات النفط يتم استيراده، لأن نفط البلد يصدّر وليس في أنغولا مصافٍ تكفي حاجتها.

في دراسةٍ نادرة غير منحازة عن صناعة النفط في انغولا، تشرح الباحثة ماريا ليزا راموس، بالتفصيل، كيف يجري اعطاء العقود بلا رقابة، وكيف تتحكم شركة النفط الحكومية بالعائدات التي يضيع منها المليارات كل سنة، وكيف ظلت الحكومة لا تنشر حتى بيانات الانتاج والمداخيل، إلى أن أجبرها صندوق النقد الدولي على بعض اجراءات الشفافية. لهذه الأسباب خلق النفط في أنغولا طبقةً بالغة الثراء فيما الكثير من الناس، تقول راموس، لا يعرفون حتى عن حجم هذه الثروة الوطنية، وعن الصلة بينها وبين الفساد، وبين الفقر الذي يعيشون فيه. هذه النخبة الحاكمة، بتحالفاتها المالية الدولية، تمكنت من جعل أموال النفط الهائلة خلال العقد الماضي تذهب كلّها (الى الأعلى ومن ثمّ إلى الخارج)، تستخلص الدراسة.

المشكلة هي أنّ حقول النفط والغاز حول العالم ليست كلّها كاحتياطات الخليج، التي تنتج لأجيالٍ من دون أن تنضب، بل لها دورة انتاجٍ محدودة يمكن توقّع مراحلها. في أنغولا، بسبب الاستغلال المكثّف للحقول، دخل الكثير منها في طور النضوب منذ اليوم، والانتاج بدأ يميل إلى الانخفاض. حين يكون لديك احتياطات تقدّر بـ 9 مليارات برميل، ثم تخطط الشركات لاستخراج 800 مليون منها سنوياً، فمن المنطقي أن تجد نفسك بعد سنوات وقد خسرت الثروة بأكملها ــــ إلى الأبد ــــ ولم يتبقَ منها الا آثار ثراءٍ فاحشٍ في يد طبقةٍ عميلة. ومن يعتقد أن نكبة افريقيا (استثنائية) لا يعرف كيف تضيع أضعاف هذه الثروة في بلادنا، وكيف صارت عشرات المليارات من براميل النفط العربي وقوداً لتمويل قصور الأمراء وشركات السلاح والسياسة الأمريكية.

الأخبار

العدد 1104 - 24/4/2024