العولمة.. ومعركة الرأسمال

 لقد كان يجري الحديث خلال ربع القرن السابق عن عالم ما بعد الحرب الباردة، ولم يكن أحد يعرف محتواه تماماً، بيد أن نظاماً دولياً جديداً قد حلّ الآن بوضوح محل الحرب الباردة، إنه نظام العولمة- نظام التكامل بين الأسواق، والتمويل، وتطور التكنولوجيا على نحو يقلص العالم من حجمه المتوسط إلى الحجم الصغير، مما يجعل كل واحد قادراً على الوصول إلى مواقع أبعد حول العالم، بل أسرع، وبتكلفة أرخص عما كان عليه الحال من قبل، إن العولمة لا تمثل توجهاً ،اقتصادياً فحسب، كما لا تمثل مجرد بدعة جديدة، ومثلها مثل جميع النظم الدولية السابقة تقوم العولمة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بتشكيل السياسات الداخلية والاقتصادية، فضلاً عن العلاقات الخارجية لمعظم البلدان عملياً.

إن الحرب الباردة كنظام دولي، امتلكت بنية خاصة للقوة: التوازن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وبضمن ذلك حلفاء كل منهما، وقد كان للحرب الباردة قوانينها الخاصة، ففي مجال الشؤون الخارجية، لم يكن بمقدور أي من القوتين العظميين التعدي على المجال السياسي لنفوذ القوة الأخرى، بينما في المجال الاقتصادي كانت البلدان المتخلفة تركز على تنمية صناعاتها الوطنية، والبلدان النامية على النحو القائم على الصادرات، والبلدان الاشتراكية على سياسية الاكتفاء الذاتي، في حين كانت الاقتصادات الغربية تركز على التجارة المنظمة، كما كان لدى الحرب الباردة أفكارها المهيمنة، الصدام بين الشيوعية والرأسمالية علاوة على الانفراج في العلاقات الدولية، وعدم الانحياز، كما امتلكت الحرب الباردة أيضاً توجهات ديموغرافية: كانت حركة الناس من الشرق إلى الغرب تعاني من الجمود إلى حد كبير نتيجة الستار الذي وضع في وجه ذلك.

في حين كانت الحركة من الجنوب إلى الشمال متدفقة على نحو أكثر انتظاماً، وامتلكت الحرب الباردة أيضاً تكنولوجيات محددة لها: سيطرة الأسلحة النووية والثورة الصناعية الثانية، وأخيراً كان للحرب البادرة قلق خاص بها إنه التدمير النووي، وإذا ما أخذنا هذه الأمور مجتمعة، يمكن القول إن نظام الحرب الباردة لم يقم بتشكيل كل شيء، وإنما صاغ الكثير من الأشياء.

أما نظام العولمة في يومنا هذا، فيمتلك صفات وقواعد وبواعث وسمات مختلفة تماماً، ولكن نفوذه مؤثر بالقدر نفسه، لقد كان نظام الحرب الباردة يتسم بملمح واحد رئيسي: التقسيم، لقد جرى تقسيم العالم وكانت التهديدات والفرص تميل إلى النمو من الجانب الذي تحقق الانقسام عنه، ويمكن على نحو مناسب وضع نظام الحرب الباردة بشكل رمزي في صورة واحدة: السور، ولنظام العولمة سمة واحدة التكامل والربط، فالتهديدات والفرص أمام أي بلد اليوم، إنما تنمو على نحو متزايد من الجانب المرتبط به هذا البلد، ويمكن الإشارة إلى هذا النظام برمز واحد: شبكة الاتصالات العالمية بواسطة الكمبيوتر (الإنترنت). إذاً فقد انتقلنا بالمعنى الواسع من نظام كان مبنياً حول أسوار إلى نظام يبنى على نحو متزايد حول شبكات.

وعلى خلاف نظام الحرب الباردة، يمتلك نظام العولمة ثقافته المهيمنة، مما يفسر ميل التكامل نحو إضفاء طابع التجانس. لقد تحقق التجانس الثقافي، في العصور السابقة، على الصعيد الإقليمي- إضغاء الطابع الروماني على أوربا الغربية وعالم البحر الأبيض المتوسط، وإضفاء العرب الطابع الإسلامي على آسيا الوسطى والشرق الأوسط وشمالي إفريقيا وإسبانيا، وإضفاء الطابع الروسي على أوربا الشرقية والوسطى وأجزاء من أوراسيا في ظل السوفييت؟ وإذا تحدثنا من الزاوية الثقافية نجد أن العولمة تمثل بدرجة كبيرة انتشار الأمركة (للأفضل وللأسوأ) من ساندويشات بيك ماك إلى ميكي ماوس.

بينما كان الثقل، وخاصة ثقل إلقاء الصواريخ هو المقياس المحدد للحرب الباردة، فإن السرعة- سرعة التجارة والسفر، والاتصالات والابتكارات هي المقياس المحدد لنظام العولمة، وبينما كانت المعاهدات تمثل وثيقة نظام الحرب الباردة، فإن (الصفقة) تمثل وثيقة نظام العولمة، وإذا كان قلق نظام الحرب الباردة يتمثل في الخوف من الإبادة من عدد معروف جيداً في نظام عالمي ثابت ومستقر، فإن قلق نظام العولمة يتمثل في الخوف من التغيير السريع من جانب عدد لا يمكن رؤيته أو لمسه أو الشعور به، إنه الإحساس بأن وظيفتك، أو مجتمعك، أو مكان عملك، يمكن أن يتغير في أي لحظة بفعل القوى الاقتصادية والتكنولوجيا المجهولة، التي قد تكون أي شيء إلا أن تكون مستقرة.

وفي حين كان كارل ماركس وجون كينز الاقتصاديّين المحددين لنظام الحرب الباردة، فقد نشأ ،اقتصاديون جدد حددوا نظام العولمة، وفضّلوا إطلاق العنان للرأسمالية. إن شومبيتر، وهو وزير مالية النمسا السابق وأستاذ بجامعة هارفارد، قد عبر عن وجهة نظره في كتابه (الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية) الصادر عام 1942 قائلاً إن جوهر الرأسمالية يتمثل في عملية التدمير الخلاق، الدورة الأبدية لتدمير المنتجات أو الخدمات القديمة الأقل كفاءة، وإحلال منتجات جيدة أكثر كفاءة محلها.

لقد أصبحت مقولة (مريض البارانويا هو فقط الذي يعيش) كما يقول هذا الاقتصادي عنواناً للعولمة، فالابتكارات التي أدت إلى تغيير الصناعة آخذة في الحدوث اليوم على نحو شديد التسارع، وبفضل عمليات التقدم التكنولوجي المفاجئ هذه أصبحت سرعة اعتبار آخر اختراع اختراعاً بلا قيمة، ولذا فإن مريض البارانويا هو فقط الذي سيعيش، أي فقط أولئك الذين ينظرون على الدوام من فوق أكتافهم لمعرفة من الذي يبتدع شيئاً جديداً يمكن أن يدمرهم، وعندئذ يقومون بعمل ما ينبغي عليهم القيام به ليظلوا متقدمين بخطوة، وسوف تقل كثيراً الأسوار اللازمة للحماية، وإذا ما شبهنا الحرب الباردة بلعبة مصارعة بين رجلين ضخمين داخل حلبة يمارسان كل الطقوس التي يجب أن تمارس في هذه اللعبة كي يدفع أحدهما الآخر خارج الحلبة، دون أن يتعرض هذا الآخر للقتل، فإننا نشبه العولمة بلعبة رياضية أخرى هي سباق المئة متر الذي يتكرر على الدوام، لا يهم عدد المرات التي يكسبها المرء، فعليه أن يتسابق ثانية في اليوم التالي، وإذا ما خسر المرء بمقدار 1 من 100 نقطة من الثانية، فإن الأمر يماثل كما لو أنه خسر بمقدار ساعة.

وأخيراً، والأكثر أهمية، تمتلك العولمة بنية خاصة بالقوة أكثر تعقيداً من بنية الحرب الباردة، لقد كان نظام الحرب البادرة مبنياً على وجه الحصر حول الدول القومية، ومتوازناً عند المركز بفعل القوتين العظميين، وفي المقابل ينبني نظام العولمة حول ثلاثة توازنات متداخلة وتتبادل التأثير فيما بينها. يتمثل التوازن الأول في التوازن التقليدي بين الدول القومية، ولا يزال هذا التوازن يتسم بأهمية في ظل نظام العولمة.

ويكمن التوازن المهم الثاني بين الدول القومية والأسواق العالمية، التي تتكون من مئات الآلاف من المستثمرين الذين يحركون الأموال في جميع أنحاء العالم من خلال مجرد نقرة على فأرة الحاسوب، لقد أطلق عليهم اسم (القطيع الإلكتروني) إنهم يتجمعون في المراكز المالية العالمية مثل نيويورك ولندن وفرانكفورت وهونغ كونغ وغيرها، أي (الأسواق العظمى). إن بمقدور الولايات المتحدة على سبيل المثال أن تدمرك بإلقاء القنابل، أما الأسواق العظمى فبمقدورها تدميرك بالبخس من قيمة سنداتك المالية.

أما التوازن الثالث في نظام العولمة وهو الأحدث بين كل التوازنات فيتمثل في التوازن بين الأفراد والدول القومية، نظراً لأن العولمة حطمت كثيراً من الأسوار التي كانت تحد من حركة الناس ومدى ما يمكنهم الوصول إليه، ونظراً لأن العولمة قامت في الوقت ذاته بربط العالم عبر الشبكات الإلكترونية، فإنها تمنح الأفراد قدراً من القوة المباشرة أكبر مما كان عليه المرء في أي فترة تاريخية سابقة، إننا اليوم لا نمتلك قوى عظمى فحسب، ولا أسواقاً عظمى فحسب، وإنما أيضاً أفراداً ذوي قدرات تمكينية عظيمة، يشعر بعض هؤلاء الأفراد بغضب شديد، ويتمتع بعضهم بروح بناءة عالية، ولكن جمعيهم قادر الآن على العمل بصورة مباشرة على المسرح العالمي، دونما حاجة إلى الوساطة التقليدية من جانب الحكومات أو حتى الشركات.

نحن إذاً لم نعد نعيش في (عالم ما بعد الحرب الباردة) ذلك العالم الذي كان يموج بالفوضى والتفكك، إننا نعيش الآن في ظل نظام دولي جديد، يجري تعريفه من خلال العولمة، بأجزائها وسماتها المتحركة، ولايزال أمام البشرية طريق طويل حتى تدرك بالكامل كيف سيعمل هذا النظام. وعلى الرغم من أن العولمة ليست جيدة في جميع جوانبها، وتوجد فيها جوانب متدنية، ولكن يجب الاعتراف بأنها تخلق فرصاً جديدة للناس والدول وأنها تبشر بظهور نظام جديد، ومن الضروري القيام بمحاولات لتحليل الأحداث التي تجري داخلها، من أجل معرفة آفاق التطور، الذي تنتظره الإنسانية.

 

العدد 1105 - 01/5/2024