البيروقراطية ودورها التخريبي

لقد كان لتفشي البيروقراطية في جسم الدولة السوفييتية، وتغلغلها في جميع مؤسساتها وإداراتها دور كبير جداً في الانهيار العاصف الذي حدث فيها في تسعينيات القرن الماضي، فغياب الديموقراطية السياسية في البلاد، وسيطرة نظام الحزب الواحد القائد، ولجم حرية الرأي، وتحول المنظمات الجماهيرية إلى منظمات سلطوية، همّها لا الدفاع عن مصالح الجماهير الشعبية، وإنما الدفاع عن النظام والسلطة، وعدم وجود انتخابات تشريعية حقيقية تمثل بصورة فعلية مصالح مختلف شرائح المجتمع وآرائها ، وسيطرة النظام التراتبي المبني على التعيين، الذي كان يجري انطلاقاً من قرب هؤلاء، أو بعدهم عن المسؤول الحزبي على سبيل المثال، وغياب النقد أو إفراغه من محتواه البنّاء إضافة إلى غياب حرية الرأي.

إن كل ذلك أدى إلى ركود مجتمعي عميق، وإلى نشوء نظام بيروقراطي لا يتمتع بالحيوية، ويعرقل تطور البنى الاقتصادية، ويعيق تعميم المنجزات العلمية على الاقتصاد، وغطى إلى حد بعيد على المنجزات الكثيرة التي كان يمكن أن تعزز وحدة المجتمع السوفييتي وأن تقدمه كنموذج يحتذى بالنسبة لشعوب العالم.

لقد قدمت الإحصاءات، حتى السوفييتية نفسها، معطيات مذهلة عن سرعة تعميم منجزات العلم في بلدان الغرب، وفي الاتحاد السوفييتي، وبينت فوارق هامة جداً بين الطرفين، ولقد ظهر أن الاتحاد السوفييتي يتخلف كثيراً في هذا الصدد عن البلدان الرأسمالية، وساعد أيضاً في هذا التخلف غيابُ المنافسة في الاقتصاد السوفييتي، فالشعب مجبر على شراء ما تنتجه مصانع الدولة، وهي بالتالي ليست معنية فعلياً بمسألة تحسين الإنتاج.

إن تعزز البيروقراطية في النظام، ونشوء طغم عليا ترتبط مصالحها بذلك وتتحكم بكل المسائل الاقتصادية الإنتاجية في البلاد، دون خوف من أية مساءلة، قد أصبح كل ذلك عائقاً كبيراً أمام تطور القوى المنتجة، وأدى إلى شخصنة إدارة الاقتصاد من خلال التدابير الأوامرية التي كانت تعالج فيها المشاكل الناشئة، وغياب سياسة التسعير الموضوعة والمضبوطة من خلال المعايير الاقتصادية، وعدم أخذ السوق بالحسبان، وخرق قانون القيمة بفظاظة، واستحواذ الجهاز البيروقراطي على القيمة الفائضة، والرفاه الذي كانت تتمتع به النخب القيادية لهذا الجهاز.

إن كل ذلك أدى إلى فقدان الحيوية في النظام الاقتصادية السوفييتي، وإلى أزمة اقتصادية حقيقية، سعت أجهزة الإعلام الحكومية إلى إخفائها من خلال الدعاية غير الصادقة التي كانت تروّج لها حول بناء القاعدة المادية للشيوعية، وازدياد الإنتاج، وتحسن مستوى حياة الشعب، في الوقت الذي كان الواقع يسير بصورة متناقضة مع هذه الدعاية.

لا نستطيع أن ننفي أن البيروقراطية موجودة أيضاً في البلدان الرأسمالية، وهي سمة ملازمة للدولة، ولكن ما كان يقلل من أضرارها هو:

– إن الدولة في البلدان الرأسمالية ليس لها طابع إنتاجي، أو أن لها طابعاً إنتاجياً محدوداً، وبالطبع فإن الرأسمالي الذي يملك وسائل الإنتاج ويقود العملية الإنتاجية، سيكون حريصاً بالطبع على مصلحته، فالتنافس لا يرحم، ومن يسبق في تحسين أدوات الإنتاج وتطويرها، سيكون هو الرابح الأول، لذلك فالنظام البيروقراطي لا ينسجم مع مصلحته- مصلحة الرأسمالية- هناك لهاث للسبق في تحسين وسائل الإنتاج، لأن السوق هو المحطة الأخيرة لهذه العملية في نهاية المطاف، وهو الذي يحكم إما بالموت وإما بالحياة.

لم يتوفر هذا الأمر في النظام السوفييتي الذي كانت الدولة تسيطر فيه على كل العملية الإنتاجية وتتحكم بها كاملاً، وكانت البيروقراطية هي المستفيد الأساس منها.

يمكن القول في الختام إن البيروقراطية التي نشأت في الاتحاد السوفييتي وطبعته بطابعها، قد أعاقت تطور القوى المنتجة، وشكلت مناخاً ملائماً لانهيار النظام لاحقاً، ويمكن أن تكون التجربة السوفييتية غنية جداً بدروسها التي يمكن أن تستفيد منها بلدان نامية سارت سابقاً على هدي النظام السوفييتي، وأن تتخلص من السلبيات والأخطاء الكبيرة التي لحقت بهذا النظام وأدت إلى انهياره.

العدد 1105 - 01/5/2024