قراءة في كتاب (لغز عشتار)

اللات ومناة والعزى هي ليست أسماءً لأصنام من التمر والطين والحجر، بل هي أسماءٌ للآلهة الأم، الآلهة الأولى، آلهة الطبيعة في جزيرة العرب، مثل عشتار وفينوس وإيزيس وإنانا، لدى بعض الشعوب الأخرى، منذ أكثر من عشرة آلاف عام.

تميز تاريخ الإنسان منذ القدم بأربعة تحولات أساسية، كل تحول منها كان يحدث انقلاباً شاملاً في شتى مناحي الحياة، ويعطي للحضارة نقلة حاسمة في صفاتها ومظاهرها ومضامينها، باعتبار أن الحضارة بالتعريف هي مقدار ما يستطيع الإنسان فعله لتطويع الأشياء والعناصر الطبيعية لخدمته، ووضع القوانين والأسس التي تُنظِّم هذه الخدمة.

التحولات الأساسية الأربعة بدأت بالتحول الأساسي الأول، وهو العصر الحجري أو البيلستوسيني، الذي امتدَّ منذ ما يقرب من مئة ألف عام، واستمرَّ حتى عشرة آلاف عام قبل الميلاد، في هذا العصر شعر الإنسان باختلاف حياته عن حياة الحيوان، وأدرك إمكاناته وإمكانات بيئته، وعمل على التكيف معها.

التحول الأساسي الثاني في نهاية العصر الحجري قبل عشرة آلاف عام، ترك العيش والسكن في الكهوف، وبنى بيوتاً من الطين والحجر على شكل مستوطنات جماعية، واكتشف الزراعة وصار يأكل من مزروعاته، بعد أن كان يأكل الأعشاب والحشائش الطبيعية، واستطاع تدجين الماشية، وعرف كيف يستفيد منها في طعامه وتنقلاته ولباسه، وسميت معارف الإنسان وثقافته في هذا العصر الحجري بالثقافة الباليوليتية.

التحول الأساسي الثالث بدأ منذ ثمانية آلاف عام ويسمى بالعصر المديني أو الثورة المدينية، حين ظهرت المدن الكبيرة بدل المستوطنات الصغيرة، وانتشرت هذه المدن في مواقع كثيرة بدأت من وادي الرافدين، ثم انتشرت في مواقع كثيرة من العالم، وسمي هذا العصر النيوليتي.

التحول الأساسي الرابع هو العصر الحالي الذي تميز بالثورة الصناعية وتطوراتها التي يعيشها الإنسان الحالي منذ مئة وخمسين سنة تقريباً.

علمُ الآثار الحديث يقرر اليوم أن الثورة المدينية قد حدثت لأول مرة في تاريخ البشرية في منطقة الشرق الأدنى في وادي الرافدين بمدينة سومر، ثم في مصر، ثم الهند، ثم في سورية الجنوبية في فلسطين ووادي الأردن، خلال الألف العاشر قبل الميلاد، ثم انطلقتْ نحو آسيا وجنوب أوربا.

منذ أن تعلَّم الإنسان الزراعة، وصار ينتظر المحاصيل في المواسم، وباختلاف المحاصيل بين موسم وآخر، صار يفكر بأن هناك قوة خفية تتحكم بالزراعة، تتحكم بالعطاء، ولا بد من وجود الأم الكبرى للكون، باعتبار الأم هي مصدر الولادة والعطاء، فلا بدَّ أن تكون الآلهة هي أنثى، وهي سيدة الطبيعة، وبنى حول هذا الشكل الإلهي بنية من التصورات والأفكار والاعتقادات والأساطير، ويمكن أن نستنتج أن الديانة في البدء هي ديانة زراعية، تتركز حول وجود سيدة للطبيعة، وهي آلهة واحدة تساعد الزارع في إتمام زراعته وتشرف على مزروعاته، وتعطيه من المحصول حسب مقدار رضاها عنه.

صنع الإنسان التماثيل للآلهة الأم، على شكل دمى طينية صغيرة، إلى حجرية أكبر، إلى كبيرة جداً، وبنى لها المعابد ووضعها فيها، وأغلب هذه الدمى على شكل امرأة حبلى، أو تضم صغيرها إلى صدرها، أو عارية تمسك ثديها بوضع عطاء، أو ترفع بيدها باقة من سنابل القمح، أو ممسكة بالأفاعي، أو تعتلي ظهور الحيوانات الكاسرة، تلكم هي أغلب حالات الأم الآلهة، والأنثى في تلك العصور هي منشأ الأشياء، وتخلق أو تصدر عنها كلَّ الموجودات، ومن هذه الأم انطلقت بقية الآلهة على مختلف مسمياتها، كآلهة الخصب وآلهة الوقت وآلهة الكواكب وآلهة الحيوان إلى آخره من المسميات والتسميات، ومنها بعض الذكور من أولاد الآلهة الأم الذين يساعدونها في إدارتها للطبيعة كلٍّ حسب اختصاصه، مثل تموز وغيره، وبالطبع فإن شكل الآلهة غير معروف، فهي موجودة بدلالة إشرافها على الأشياء، تخيلها الإنسان على شكل امرأة جميلة فصنع لها التماثيل ليتقرب من ذات الآلهة الأصل، عن طريق اعتنائه وخدمته للتماثيل التي ترمز إليها.

من أول أسماء الآلهة التي ابتدأت في سومر الآلهة (نمو) آلهة البدء والمياه الأولى، و(إنانا) آلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية.

وفي بابل نجد (ننخرساج) الأم الأرض، و(عشتار) (عيش الأرض) مثل إنانا أيضاً هي آلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية.

وفي كنعان: (عناة) و(عستاروت).

وفي مصر: نوت وإيزيس وهاتور وسيخمت.

وعند الإغريق: ديمتر، وجيا، ورحيا، وأرتميس، وأفروديت.

وفي آسيا الصغرى: سيبيل، وفي روما سيريس وديانا وفينوس.

وفي جزيرة العرب: اللات والعزّى ومناة.

وفي الهند: كالي، وفي حضارة السلت الأوروبية: دانو وبريجيت.

وكل هذه الأسماء المتنوعة لها المعنى نفسه لدى شعوبها، في فترات من الأزمنة، في تاريخ البشرية، هذا المقال هو نتيجة اطلاعي على كتاب (لغز عشتار- الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة) للباحث فراس السواح، الصادر في دمشق عام 1993 الطبعة الخامسة.

العدد 1105 - 01/5/2024