الليبرالية الاقتصادية الجديدة..استبعاد الدولة.. وسيطرة النخب

ما الذي يدعونا اليوم إلى إعادة دراسة العِبَر واستخلاص دروس الانهيار الكبير في خريف 2008 وتداعياته على مجمل الاقتصاد العالمي؟

إنها تداعيات هذا الانهيار التي مازالت- حسب اعتقادنا- تفعل فعلها، لا في قلعة الرأسمالية العالمية فحسب، بل في جميع دول العالم، ونخصّ هنا الدول النامية التي تحولت إلى منصّات عائمة للشركات المتعددة الجنسية العابرة للمحيطات، بحثاً عن التكاليف المنخفضة والربح المرتفع، هذه الشركات التي باتت اليوم هي (حكومات الظل) في العديد من هذه الدول. أما فيما يخصّنا نحن في سورية، فلا شك أن استرجاع المنعطفات الكبرى التي واجهت الاقتصاد العالمي، قد تُقنع البعض بأهمية دور الدولة في عملية بناء سورية بعد انتهاء الأزمة التي حولت حياة السوريين إلى كابوس مرعب.

إننا نعتقد جازمين بأنه في الوقت الذي توضع فيه على طاولة المجتمع الدولي سيناريوهات الحل للأزمة السورية، فإن حكومات ومجموعات اقتصادية ومالية ومنظمات دولية تبحث في مستقبل سورية الاقتصادي وعملية البناء بعد نهاية الأزمة، هذا ما تؤكده دراسات وتصريحات واقتراحات نُشرت وتُنشَر تباعاً، فالكعكة كبيرة وتستحق العناء والتدخل بجميع الوسائل وبأشكال متعددة. لذلك رأينا التذكير بأسباب الانهيار الكبير وتداعياته وعِبَره، لعل الذكرى تنفع.

خضع التحول باتجاه الليبرالية الاقتصادية الجديدة في اقتصادات الولايات المتحدة الأمريكية والدول الرأسمالية الأوربية إلى منطق مغرق في أصوليته، تندمج فيه من حيث الشكل نظريات الحرية الفردية التي لا تحدّها حتى قوانين المزاحمة الحرة، مع صورة متخيلة لمجتمعات يديرها (أفراد) متميزون.. قادرون على الخلق والإبداع وصنع الثروات.. والمعجزات، بمعزل عن القواعد المجتمعية السائدة، التي تحدّ من قدرات الأفراد بسلوكيات أخلاقية وإنسانية (كابحة).

تقول مارغريت تاتـشر أشهر تلامذة (فريدريك فون هاييك)، فيلسوف الفكر الاقتصادي لليبرالية الجديدة: (ما تفرزه السوق صالح، أمّا تدخّل الدولة فهو سيئ، إن آلية السوق هي التي توجّه قدر البشر ومصيرهم، والاقتصاد الحر من أية قيود هو المحدد لقوانين المجتمع وليس العكس. مهمّتنا بلوغ المجد في سياق اللامساواة. لا نعبأ بالمتخلفين في سباق المنافسة. إن الناس غير متساوين وذوو الحظ العاثر يستحقون ما يصيبهم! السوق.. السوق، إن السوق التنافسية لا تحقق فقط أقصى قدر من الفعالية الاقتصادية، بل هي الضامن الرئيسي للحرية الفردية والتضامن الاجتماعي! إن الشركات العملاقة والمضاربات، وحركة الأموال في السوق هي المحدِّد لقوانين المجتمع، إنها الديمقراطية وقد تجلّت بحرية المبادرة الاقتصادية) (1).

أما من حيث المضمون فهو منطق سيادة النّخَب الثرية المسيطرة على مفاتيح السياسة والاقتصاد والإعلام ووسائل الاتصال والبرمجيات، وهو منطق معادٍ لتطلّعات الشعوب الساعية إلى التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية. هذا ما أكدته الحروب التي أشعلتها الإدارة الأمريكية للهيمنة على مقدرات الشعوب، والأزمات الكبرى التي عصفت بالاقتصاد العالمي بعد طغيان منطق الليبرالية الاقتصادية الجديدة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، فهذا المنطق كما يقول ماركس (أكثر حالات المجتمع ثراء تؤدي إلى معاناة الأغلبية ، ويترتب على ذلك أن هدف النظام الاقتصادي هو شقاء المجتمع) (2).

لقد حوّلت الإمبريالية الأمريكية العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي،إلى مزرعة خلفية للرأسمالية العالمية، المدرّعة في نهاية الألفية الثانية باتحاد يضم مصارف استثمارية تتلاعب بالتريليونات في البورصات العالمية وأسواق المال والائتمان.. وشركات متعددة الجنسية تزرع منصاتها العائمة حتى في أقاصي إفريقيا وغابات آسيا.. ومجمّع عسكري هائل القدرات، قادر على فرض المنطق الأمريكي النيوليبرالي بواسطة القاذفات والبوارج الحربية، ومؤسسات ومنظمات دولية، كصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وانتقل النفوذ الجيوسياسي من أيدي الحكومات المركزية وأدواتها، إلى حفنة من المضاربين الكبار وصناديق الاستثمار، ولعل هذا ما يفسر في كثير من الأحيان عجز المصارف المركزية عن معالجة أزمات أسواق المال العالمية، إذ تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 42 دولة في العالم، وثروة 200 من أثرياء العالم تتجاوز نسبتها 41% من دخل جميع سكان العالم.

كما أصبح مصير العالم في نهاية القرن الماضي مرتبطاً بنخبة من الأقوياء يشكلون 20%من سكان الكوكب، وقلة من الشركات المتعددة الجنسية، من بينها خمس شركات عملاقة تُـسيطر على 50% من الأسواق العالمية في مجالات صناعات الفضاء والمكونات الإلكترونية والسيارات والطائرات المدنية والفولاذ والإلكترونيات، وخمس شركات أخرى تسيطر على 70% من السلع المعمرة، وخمس شركات غيرها تهيمن على 40% من الحواسيب والإعلام، ومبيعات 200 شركة تشكل 28% من الإنتاج الخام العالمي، تساندهم حكومات الدول العظمى التي أتخمت أحزابها بتبرعاتهم السخية، فراحت تلَوّح في كثير من الأحيان ببوارجها وقاذفاتها لتمهيد الطريق أمام مخططاتهم. ومنظمات دولية كرسوها لفرض برامجهم وشروطهم التي وضعوها لتطور البلدان النامية والفقيرة ضمن السياق الذي يسهل تسيّدهم للاقتصاد العالمي إنتاجاً وتجارة وأسواقاً وخدمات. أما النسبة الباقية وهي الثمانون في المئة العاطلون عن العمل، فعليها أن تعاني!

لقد أدت الأزمة لاقتصادية العالمية في خريف عام ،2008 التي تسببت بها السياسات النيوليبرالية، إلى كوارث اقتصادية وإنسانية لم تقتصر تداعياتها على المجتمعات في البلدان الرأسمالية الكبرى، بل شملت بلداناً وشعوباً في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية واللاتينية.

لقد تعرض الاقتصاد الأمريكي لحالة ركود شديد تمثّلت بإقفال العديد من المصانع، وزيادة معدلات البطالة، وانخفاض القدرة الشرائية للغالبية العظمى من السكان، وتقلّص حجم الصادرات، وتراجع السياسات الائتمانية للمصارف بعد التراجع الخطير في نسب السيولة. وناهزت خسائر هذه الأزمة، حسب تقديرات الاقتصاديين 55 تريليون دولار، وارتفعت نسبة البطالة إلى 9,3% في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، وفقد مليون مواطن أمريكي منازلهم، واضطرت الحكومة الأمريكية للّجوء إلى (أبغض الحلول) أي التدخل المباشر في العملية الاقتصادية عبر تأميم بعض المصارف وشراء بعض الأصول في مصارف أخرى، وضخّ ما يقارب تريليون دولار في حملة واسعة لإقراض بعض الشركات الاستثمارية الكبرى، وشركات صناعة السيارات.

في أوربا بدأت الحكومات الليبرالية، وهي تشكّل أكثرية الحكومات، اللطم على الخدود. فالتشابك في فضاء العولمة أدخل الجميع في رواق المصير المجهول، وبدأت حوارات العتب وإلقاء اللوم، تارة على الإدارة الأمريكية، وأخرى على الأسواق المالية وصناديق الاستثمار أدوات الدمار المالي الشامل. وتناست هذه الحكومات أنها استجابت خلال السنوات العشر الأخيرة لكل النصائح الواردة إليها من الإدارة الأمريكية، وبخاصة العولمة والخصخصة. الأولى تعني تراجع الدولة عن أية ضوابط لدخول الرأسمال الأجنبي وخروجه، والثانية بيع القطاع العام في كل دولة لمن يرغب في الشراء، خصوصاً إذا كان أجنبياً تختاره أو توصي به المؤسسات الأمريكية. وهكذا راحت هذه الحكومات تدرس الخيارات المتاحة لتخفيف وطأة التورط في الاقتصاد النيوليبرالي الذي هجر إنتاج السلع وتبادلها، إلى أدوات المال الجديدة وليدة أصحاب مؤسسات المال، والمصارف الكبرى التي تُحرِّك الاقتصاد بتوفير السيولة واستثمارها، بوساطة آخرين يقترضون لشراء أصول عقارية أو ريعية، وربما أوراق مالية وسندات يجري توريقها وبيعها من جديد. أدوات المال الأمريكية هذه التي صُدّرت إلى أوربا والبلدان المتقدمة، ووفاء الديون المتعثرة الناجمة عنها سيحول أموال أوربا لعلاج أمراض تسبب بها استهتار القطب الواحد.

الرئيس الفرنسي قال: (إن المصارف الفرنسية لن تتأثر)، لكنها تأثرت، مما دفعه لإلقاء خطاب غاضب قال فيه: (إن حالة الاضطراب الاقتصادي التي أثارتها أزمة أسواق المال الأمريكية وضعت نهاية لاقتصاد السوق الحرة، ونظام العولمة يقترب من نهايته مع أفول رأسمالية فرضت منطقها على الاقتصاد بأسره وساهمت في انحراف مساره. إن فكرة القوة المطلقة للأسواق ومنع تقييدها بأي قواعد أو بأي تدخل سياسي كانت فكرة مجنونة، وفكرة أن السوق دائماً على حق كانت أيضاً فكرة مجنونة). بعد عام على الانهيار، أجرت(فاينانشال تايمز) ومؤسسة (هاريس) الأوربية استطلاعاً أظهر ما يلي:

87%من الألمان و73% من الفرنسيين و58% من الإسبان و46% من الإنجليز، يرفضون الرأسمالية الأمريكية، لأنها (عنيفة ومتوحشة) ولا تأخذ في الحسبان الضمانات الاجتماعية للمواطنين، وتبين وفق الاستطلاع المذكور أن غالبية المواطنين الأوربيين يعتقدون أن الشركات الدولية المتعدّدة الجنسيات، أكثر قوة من الحكومات الأوربية التي يتعين عليها أن تعمل على مُقاومة هذه الحيتان الاقتصادية الضّخمة، لضمان حقوق العمال والموظفين والطّبقة الوسطى.

ولئن امتلكت بعض الدول النامية الكبرى، كالصين والهند، ما يساعدها على التخفيف من تداعيات الأزمة على اقتصاداتها الوطنية والأوضاع المعيشية والاجتماعية لمواطنيها، فإن مواطني الدول النامية الصغرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، كانوا الخاسر الأكبر بسبب تقليص الحكومات في تلك البلدان من نفقات الرعاية الاجتماعية، وتراجع المساعدات الدولية، فارتفعت معدلات البطالة إلى أرقام قياسية، وازدادت بؤر الفقر اتساعاً، ووصل عدد الجياع إلى أكثر من مليار جائع. وبدا واضحاً أن الدول النامية الأكثر تضرراً كانت تلك التي انتهجت نصائح صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي ووصاياه، فانسحبت حكوماتها من العملية الاقتصادية لصالح القطاع الخاص، وقلصت سياساتها الداعمة للفئات الفقيرة، و(اندمجت) في الاقتصاد العالمي قبل تحصين اقتصاداتها الوطنية.

كان صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية قد وعدا بأن ازدياد تدفّق البضائع سوف يساهم في القضاء قضاءً تامّاً على الفقر والجوع في الدول الفقيرة والنامية، وذلك بتخلّي هذه الدول عن الزراعة المحليّة، وتوجيهها نحو التصدير، ويسلّم المزارع في مالي مسؤوليّة غذائه لشركات الحبوب في مقاطعة (البوس) الفرنسية أو منطقة (الميدويست) في الولايات المتحدة، الأفضل مكننةً وإنتاجيةً. ويترك مزارعو غينيا أرضهم ويلتحقوا بالمدن ليصبحوا عمالاً في شركةٍ غربيّة نقلت نشاطاتها لتستفيد من اليد العاملة الرخيصة، وهكذا لا يبقى عندئذٍ أمام الغينيّين سوى شراء معلّبات السمك الدانماركية أو البرتغالية، وعندما رفعت الشركات المتعددة الجنسية أسعار معلباتها، أدرك مزارعو هذه لدول أي فخّ قد وقعوا في شباكه(3).

لم تكن دولة الرفاه الاجتماعي الضحية الوحيدة لسياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، فقد أطاحت أيضاً بآمال الكثيرين الذين راهنوا على دخول (الديمقراطية) من نافذة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وخاصة في الدول النامية، إذ تبيّن بعد الانهيار الكبير أن الأسواق الحرة من جميع القيود الاقتصادية والاجتماعية ليست إلّا ديكتاتورية الرساميل الإقصائية التي تطيح بعوائق سيطرتها على الاقتصاد المحلي والعالمي، حتى إذا دعتها الضرورة للإطاحة بالأنظمة الديمقراطية، أو التحالف مع أشد الأنظمة قسوة وطغياناً.

لقد استخلصت البشرية حزمة من العبر والدروس بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى في خريف ،2008 لكن أهمها -حسب اعتقادنا- كان عدم ترك مصير البشرية بأيدي مجموعة من دعاة النزعة المحافظة الغارقة في أصوليتها(الإقصائية)، وحزمة من السماسرة ورجال المال المضاربين في البورصات وأسواق المال العالمية، وضرورة العمل على إعادة الاعتبار إلى دور الدولة التدخلي في الحياة الاقتصادية، لكبح جماح نجوم الليبرالية الاقتصادية الجديدة وأدواتها، والتخفيف من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي تسببوا بها لشعوب العالم، والنضال من أجل نبذ سياسات القطب الأوحد، وتحويل العالم الذي اختطفه هذا القطب المهيمن، إلى عالم متعدد الأقطاب.

(*) عضو جمعية العلوم الاقتصادية

المراجع

1 – مستقبل السياسات الراديكالية – أنطوني جيدنز.

2 – كارل ماركس- مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية.

3 – سيرج حليمي- صحيفة لوموند ديبلوماتيك.

العدد 1105 - 01/5/2024