الفكر الظلامي وإشكالية التطور المدني!

تميز الربع الأخير من القرن الماضي وأوائل القرن الحالي بتجدد واسع للفكر السلفي في سورية، وفي معظم البلدان العربية والإسلامية، مما شكل ويشكل خطراً جدياً على التطور المدني والديمقراطي في هذه البلدان.

وتظهر الصورة واضحة من خلال الأحداث الجارية فيها، ويبدو الأمر للرائي وكأن عجلة التطور تسير إلى الوراء، فقد كان من المفروض تجاوز هذا الفكر الظلامي الذي يعود بشعوب المنطقة إلى الماضي السحيق. لقد جرى إجهاض الفكر النهضوي التنويري الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، واستمرّ بالتطور حتى منتصف القرن الماضي.

إن كل ذلك يدعونا للتساؤل عن الأسباب التي أدّت إلى تطور فكري معاكس في هذه البلدان، أين كانت تكمن جوانب الضعف في مسيرة شعوبنا على درب التطور الإنساني؟

لقد استطاعت قوى التحرر من السيطرة الاستعمارية في سورية ومصر، على سبيل المثال، أن تقوم بإنجازات هامة على الصعيد السياسي، أبرزها وضع النواة لتكوّن مدني، في هذين المجتمعين، كان جوهرها فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وحرية الرأي والأحزاب والجمعيات والنشاط السياسي، وحرية تكوين النقابات، وحرية الإعلام وتداول السلطة، إن كل ذلك شكّل بداية جدّية لتكوّن مجتمعات مدنية، وشكل أيضاً أرضية لاستكمال مقومات الدولة المدنية. بيد أن نقاط الضعف الأساسية كانت تكمن في المسألة الاقتصادية والاجتماعية، إذ لم تستطع هذه الحركات الوطنية إنجاز مهام الثورة الوطنية كاملاً، وكانت في كثير من الأحيان، مترددة في اتخاذ تدابير تمس مصالح أوسع فئات الجماهير الشعبية.

مثلاً، لم تستطع البرجوازية الوطنية السورية، وكذلك المصرية، أن تزيل من الريف العلاقات الإقطاعية التي كانت تعيق التطور الزراعي، والتي كانت تجعل من الفلاح وحياته أقرب إلى حياة الأقنان، الأمر الذي عزلها عن جماهير واسعة من الريف، كذلك لم تستطع أن تصوغ سياسة حازمة تماماً ضد الاستعمار القديم الذي كان يشكل عامل كبح لتطور هذه البلدان الاقتصادي والاجتماعي، والذي كان ينظر إليها كمصدر للثروات الخام فقط، وكان يقوم بنهبها.

إن عجز قادة حركة التحرر من الاستعمار القديم عن حل مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذاً، شكّل إحدى أبرز نقاط ضعف الحركات الوطنية آنذاك، الأمر الذي فسح المجال لقوى اجتماعية أخرى، لم يكن دورها بارزاً في الصراع ضد الاستعمار، أن تخرج إلى الساحة السياسية بزخم كبير، وقد حاولت أن تظهر بمظهر القادر على حل هذه المشكلات. وتدريجياً أخذت هذه القوى تتحول إلى قوى مسيطرة على الحركة السياسية في مصر وسورية، كما قلنا على سبيل المثال.

بيد أن هذه القوى الجديدة التي دخلت الساحة، كانت تفتقد إلى المشروع الديمقراطي، الأمر الذي جعل الهوّة تزداد بينها وبين الجماهير الشعبية، وأحدث ذلك فراغاً مجتمعياً لم تكن توجد أية قوة قادرة على ملئه سوى القوى الأصولية.

إن موقف التعالي وتهميش الجماهير الشعبية والخوف من قوى التغيير الجذري في المجتمع، واعتبار هذه القوى تشكل الخطر الرئيسي، كل ذلك أدى إلى تسطيح الحياة السياسية في هذه البلدان، وتراجعها عن المشاريع التغييرية التي طرحتها سابقاً، وبالتالي عجزها عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى أزمة مجتمعية في هذه البلدان.

ويضاف إلى كل ذلك، التمويل الواسع للفكر الأصولي من قبل الرجعيات العربية وغيرها، وبتشجيع من بعض البلدان الغربية، مستغلين الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، كل ذلك دفع بالفكر الأصولي إلى المقدمة.

إن كل من يعتقد أن الفكر الأصولي قادر على حل الأزمة، هو واهم، بل على العكس، سيزيد من حدّتها، وهذا الفكر أدى وسيؤدي إلى انقسامات واسعة بين الجماهير الشعبية على أساس طائفي ومذهبي، وأدى ويؤدي إلى تكوّن وعي مشوّه للجماهير الشعبية التي لا مصلحة لها أبداً بالصدام بعضها مع البعض الآخر، ومن حيث الجوهر، فإن هذا الاتجاه الأصولي، في حال استطاع تحقيق نجاح ما، سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في كل منطقة الشرق الأوسط دون استثناء، ولن تكون شعوبها رابحة أبداً، وستدفع أثماناً باهظة حتى تعي مقدار خطر هذا الفكر.

  إن مجابهة هذا الفكر، تحتاج إلى دراسة معمقة لأسباب انتشاره وتوسعه، وهي لا تُحلّ بالرصاص ولا بالمدافع، إنها تحل فقط من خلال تفكيك القاعدة التي نمت عليها هذه الأفكار.

إن محاربتها تبدأ من رسم سياسات اقتصادية واجتماعية تخدم مصالح الجماهير الشعبية بأطرها الواسعة، إنها تتحقق من خلال دمقرطة مجتمعاتنا، ومشاركة الجماهير الشعبية الواسعة في إدارة بلدانها، إنها تتحقق من خلال بعث الأفكار النهضوية التي تؤمن بحق الإنسان في الاعتقاد والتعبير عن الرأي، والمشاركة في إدارة البلاد والحق في المواطنة، إنها تتحقق بغرس الأفكار التنويرية التي لا تؤمن بالحقائق الثابتة، وإنما تؤمن بحركة الفكر اللانهائية، من خلال كل ذلك يمكن محاربة هذا الفكر الظلامي التكفيري الذي يجرّ مجتمعاتنا إلى الوراء ويجعلها في أواخر ركب الحضارة الإنسانية. 

العدد 1104 - 24/4/2024