هل يمكن القضاء على المجاعة؟

بلغ عدد سكان العالم نحو 7 مليارات نسمة، وسيرتفع عددهم عام 2050 إلى 10 مليارات حسب التقديرات.. ولا تزال هناك جيوب مجاعة قائمة حتى اليوم، والسؤال الذي يطرح: هل ستبقى هذه الجيوب قائمة خلال نصف القرن القادم، وإذا بقيت ما هي أسباب ذلك؟!

لقد أعلن صندوق الأمم المتحدة للسكان عن ذلك، وهكذا فقد تضاعف سكان العالم منذ عام 1960 وفي عام 2050 حتى لو استمر معدل النمو في الانخفاض مثلما حدث في خلال الثلاثين سنة الماضية (إذ هبط من 2,4 % إلى 1,4% اليوم)، سيبلغ عدد السكان نحو 10,7 مليارات نسمة وفقاً للسيناريوهات المطروحة.

ولما كان إمكان حصول نحو 800 مليون نسمة على الغذاء (أكثر سكان أوربا والولايات المتحدة مجتمعين) هو اليوم دون العتبة التغذوية- العتبة التي تتيح البقاء على قيد الحياة، فكيف سيمكن للأرض أن تطعم عدداً أكبر بكثير من الأفواه؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال طرح سؤال آخر مباشرة: ما هو السبب الحقيقي للمجاعات، حيثما وجدت؟!

لنتذكر أولاً بعض الوقائع..

إن الإنتاج الزراعي العالمي مثلاً بكل أنواع منتجاته، يزداد منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، على نحو أسرع من ازدياد عدد السكان، وبضمن ذلك منطقة جنوب آسيا وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية (+3 في المئة في العام)، هكذا فقد تضاعف إنتاج المحاصيل الرئيسية (القمح والأرز والذرة الصفراء) خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

يعود هذا التقدم الهائل إلى آسيا، حيث تعيش الغالبية العظمى من سكان العالم.

إن الصين هي أول منتج عالمي للأرز والقمح، وثاني منتج للذرة الصفراء.. لقد أصبحت اليوم أول منتج للمحاصيل على الصعيد العالمي. في عام 1960 كان يقل إنتاجها من القمح عن مثيله السوفييتي بمقدار ثلاث مرات، واليوم ازداد هذا الإنتاج بنسبة 50%، وهو أعلى الآن بمرتين من إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية.

كان التقدم مذهلاً أيضاً في ميدان الإنتاجات الحيوانية، ففي غضون نحو الـ20 عاماً تضاعف إنتاج الصين الحيواني أكثر من أربع مرات، في حين لم يتضاعف سوى مرتين في الاتحاد الأوربي، وازداد بمقدار الثلث فقط في الولايات المتحدة.. كما أن أداء الهند التي لم تبدأ (ثورتها الخضراء) إلا منذ نحو 30 عاماً فقط، مدهش هو الآخر، إنها تنتج كمية الولايات المتحدة نفسها من القمح تقريباً، وأصبحت أول منتج عالمي للحليب.

إجمالاً، يشهد سيئو التغذية انحساراً بمعدل نحو 8 ملايين في العام وسطياً. إفريقيا جنوب الصحراء وحدها تشهد ازدياداً في أعداد سيئي التغذية.

إن تحسين نمو الإنتاج الزراعي في أوربا، وهي واحدة من المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الكرة الأرضية، حيث لم يكن يوجد سوى القليل من الأراضي القابلة للزراعة المتاحة- هو خيار سياسي.. لقد انطلقوا من الموضوعة التالية: عندما يمكن جعل المزارعين يشعرون بالأمان، من خلال تقليص أضرار المنافسة الخارجية وكبح الانفخاض في الأسعار عبر التدخل في الأسواق، فإنهم سيستطيعون التفكير جدياً بالتكنولوجيا وزيادة مردودياتهم سريعاً جداً، وتخفيض كلف الإنتاج..

هكذا تضاعفت مردوديات القمح خمس مرات في فرنسا قياساً مع مستوى ما بين الحربين العالميتين، وانخفض سعره أربع مرات منذ عام 1970. إن كل البلدان التي تسعى لتحقيق هدف الأمن الغذائي وتجعله في مرتبة الأمن العسكري تتمكن من بلوغه.

إن كل ذلك يدل على أن قهر الجوع في العالم لا يشكل تحدياً لا يمكن التغلب عليه، مع ذلك فالجدل بين الاقتصاديين على أشده.. فهم من يؤكد أن سوء التغذية لا يمكن أن يعزى إلى الإنتاج، والمالتوسيون الجدد، (الذين يؤمنون بنظرية مالتوس)،  يقولون إن نمو الإنتاج في البلدان النامية سيكون محدوداً. يبني هؤلاء تكهناتهم أساساً على تلك الفكرة التي تفيد بأن التمدن الجاري ينزع نحو تقليص المساحات القابلة للزراعة الأكثر إنتاجية: يتم غرس المدن في الأودية وليس على الجبال، والأراضي الآيلة إلى بناء المساكن أو المشاغل وتنفيذ البنيات التحتية هي تلك التي يسهل الوصول إليها بشكل عام، والقابلة للري، ويشيرون أيضاً إلى أن هذا التضاؤل في المساحات القابلة للزراعة، وصعوبة الاستمرار في زيادة المردود سريعاً بعد (الثورة الخضراء) الأولى، سيتمخض عن تباطؤ مفاجئ في نمو الإنتاج، واسع النطاق وبنتائج خطيرة..

إضافة إلى ذلك لن يعود هذا الإنتاج متوافقاً مع العادات الغذائية الجديدة (استهلاك المنتجات اللبنية، واللحوم، والفاكهة، والمنتجات المجمدة)، لـ(جماعات النخبة) والشريحة الميسورة من سكان البلدان النامية التي تقتبس العادات الغربية. ويرد اللامالتوسيون الذين يبرهون تاريخهم الاقتصادي، في جميع الميادين عن صواب آرائهم:

– ما يزال العالم يضم جزءاً من الأرض القابلة للزراعة المستريحة حالياً، وبالأخص في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، ويمكن زرع هذا الأراضي المتاحة المقدرة بـ12 بالمئة، في غضون السنوات القادمة.

– الأسمدة المستخدمة حالياً في البلدان النامية هي أقل بمقدار مرتين للهكتار بالقياس مع البلدان الصناعية، إذاً فالتكثيف المدروس ممكن.

– المردود الحاصل في البلدان النامية لا يصل إلى المستويات الغربية، على رغم التطورات الراهنة، إذاً يمكن تصور حدوث هامش من التقدم على مستوى الطرق الزراعية.

– تشكل الحروب التي تشعلها بلدان الغرب الاستعماري لتحقيق مطامعها التوسعية، ونهب شعوب بلدان العالم النامي، وتشغيل مصانع إنتاجها الحربي، وتسويق بضائعها، السبب الحقيقي للمجاعة.. فخلال السنوات الخمسين الماضية، لم يكف عدد الصراعات المسلحة عن الازدياد في العالم، وفي عام 1945 أحصي منها ثلاثون صراعاً (كبيراً)، ومئة صراع (صغير)، معظمها في إفريقيا والشرق الأوسط، فقد دمرت هذه الحروب خلال السنوات الأخيرة من القرن الحالي أربعة عشر بلداً، ومن ضمنها عدد من الدول العربية مثل سورية واليمن وليبيا والعراق.

تعمل الحرب على تخريب الحقول، وتهجير السكان، والأكثر إيذاء من ذلك هو أنه عندما تقضي الحروب على تنوع الموارد الجينية، تضر بالمزارعين المحليين في العمق، ذلك أن التنوع الحيوي، التنوع الوراثي، في قلب كل نوع، يشكل أساس الزراعة الحديثة نفسه.

تفيد معطيات منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونيسكو) (1)، بأنه يوجد في العالم نصف مليون نبات من باديات الزهر (شبه نباتية تضم النباتات التي تحمل أزهاراً في وقت معين من نموها وتتكاثر بالبذور). غير أن الإنسان يلبي 95% من حاجاته من الحريرات والبروتينات من خلال 30 نوعاً فقط من الأنواع النباتية التي يزرعها أو يقطفها وهي تعد بالآلاف.. وعلى المستوى العالمي، يأتي أكثر من نصف موروره الطاقي من خلال ثلاث زراعات كبيرة فقط: الأرز، والقمح، والذرة الصفراء. إن تنوعها الجيني هو الذي يتيح للمزارعين والمهندسين الزراعيين أن يكيفوا هذه النباتات الجوهرية باستمرار هذه العملية الحاسمة لبقائنا على الأمد الطويل.

في زراعة العالم الثالث غالباً ما تكون النباتات المزروعة وغير الموجودة في الطبيعة بصورة تلقائية، قد كيفت مع الشروط المحلية من جيل إلى جيل، ويدير المزارعون أنفسهم على نحو غير ممركز، وعلى نطاق محدود. إن هذه المزروعات المحلية هي في الغالب قديمة جداً وغير مفهرسة رسمياً..ووفقاً لليونيسكو أيضاً (المصدر السابق): (في البلدان الإفريقية يأتي حتى 90% من البذار الذي يزرع خلال السنة العادية من هذه المصادر اللاشكلية).

عندما تجبر الجماعات الريفية على الهروب، تتخرب شبكة التعاضد المنسوجة حول البذار: لا يستطيع المزارعون في أيام الحصار، إعادة البذار الذي استلفوه في أوان البذار، بحيث تنهار المنظومة. من دون الأمن الذي حققه السلام لا تستطيع الجماعات الريفية تغذية الأسواق بالبذار، ولا يعرف أحد إذا كان ما يقوم بزرعه سيمكنه أن يجنيه بالفعل.

ما الذي يمكن أن تفعله المنظومات الإنسانية؟

من المفارقة أنها غالباً ما تفاقم الوضع، أنها تستجيب لتصدق المنظومات المحلية بتزويد المزارعين بالبذار ذي المنشأ الخارجي، وبعد المساعدة الغذائية يأتي توزيع البذار والأدوات بشكل عام في المرتبة الثانية من سلم الأولويات.. إلا أن البذار في أغلب الأحيان بذار (مجلوبة) غير مختبرة.. ولا متكيفة مع الشروط المحلية وطرق عمل المزارعين. ومن الصحيح القول ضمن الحالة الراهنة للأمور، إن العالم يواجه توزعاً ليس هو الأمثل للموارد الغذائية.. تستأثر البلدان الرأسمالية الصناعية بثلثي هذه الموارد، في حين أن5 % وسطياً من سكانها العاملين، يعملون في القطاع الزراعي – الغذائي، مقابل 50% وأكثر في العالم النامي. ويشير الباحثون مع ما يجب اعتباره دعابة سوداء، إلى أن (تأثيرات التخمة الغذائية وسوء التغذية هي نفسها: ازدياد مخاطر الأمراض، وانخفاض معدل طول الحياة، وتضاؤل الإنتاجية).

ومن المؤكد أن تدمير مزراعي البلدان الرأسمالية الأغنى، أمام سيطرة الجوع على بلدان العالم الثالث، للإنتاجات الزراعية الفائضة، من أجل الحفاظ على أسعارها، وعلى أرباحهم، يشكل وضعاً صادماً، بل صعب التحمل.. ومع ذلك هل تكمن حلول المشكلة في التضامن والمساعدات؟

ليس مؤكداً أن المساعدة الغذائية هي شيء جيد، ذلك لأنها تتحول إلى سلاح في مصلحة البلدان المانحة، التي قد تمارس ضغطاً على متلقي المساعدة، ولأن ذلك لا يشجع المتلقين على تطوير الإنتاج الزراعي في بلدانهم، والأسوأ من ذلك، لأن للأمر علاقة بأقوى إغراق يمكن تصوره، وهو يؤدي إلى تثبيط الإنتاج المحلي ويقود الفلاحين إلى الإفلاس والزوال.. إن الحكومات التي تستفيد من المساعدة الغذائية إنما تستخدمها غالباً من أجل تهدئة الصراعات الناجمة عن التمدين المتنامي والبطالة، بتخفيض أسعار الخبز والأطعمة الأكثر تناولاً، مما يتمخض عن انهيار مداخيل المنتجين المحليين، أي أن المنح يعني التدمير والقتل.

في الختام يمكن التأكيد إنه ما يزال إلى الآن أكثر من 12% من أراضي العالم الصالحة للزراعة في حالة استراحة حتى اليوم، وفي حال استثمرت هذه الأراضي من خلال استخدام المنجزات العلمية في مجال علم الوراثة، وتكثيف الإنتاج، واستخدام الآلات الزراعية المتطورة وغيرها، وفي حال إعادة توزيع الموارد بصورة عادلة، وتقليص الفوارق بين الشمال والجنوب كما يقال، في حال تم تأمين كل ذلك فيمكن التأكيد أن البشرية في القادم من الأعوام لن تعاني من أية أخطار تهددها بالمجاعة.

(1) – معطيات اليونيسكو لعام 2011

العدد 1105 - 01/5/2024