ريكاردو .. والليبرالية الجديدة

المارد ضاق بالفانوس ، تجاوزت طموحاته الأسواق الوطنية والإقليمية ، فجاءت الليبرالية الجديدة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وأطلقت الرساميل مطيحة بكل الاتفاقيات السابقة التي عُقدت من أجل تثبيت الاستقرار الاقتصادي في أوربا وأمريكا واليابان ، وكرّست الثالوث الذي قلب مفهوم الصناعة والتجارة والرفاه الاجتماعي رأساً على عقب دون اعتراض أو ممانعة  ( الحرية المطلقة لرأس المال .. تحرير التجارة العالمية .. خصخصة قطاع الدولة )،  فراحت الرساميل تتنقل بين أسواق العالم بسرعة ضوئية .. وشدّت المعامل الجاهزة رحالها إلى دول  الجنوب أو المحيط  ، وبَسطت الشركات متعددة الجنسية سيطرتها المطلقة ليس على دول المركز فحسب ، بل على الصعيد العالمي ، وغزت الشركات العملاقة الأسواق العالمية بمنتجات تصنّع في أمريكا الجنوبية وآسيا ، وهكذا أصبحت تايلاند مركزاً لصناعة الجينز الأمريكي ” ليفي شتراوس ”  وماليزيا مصدراً لصناعة  “سيمنز ”  الألمانية للإلكترونيات ، والبرازيل معقلاً للآليات الثقيلة الأمريكية ” كاتربيلار ” والأردن مصنعاً إقليمياً لشركة ” ال . جي ”  الكورية  للكهربائيات  ، وعبرت سفن الشحن محيطات وبحار العالم حاملة تلك المنتجات إلى أقاصي الأرض، بعد أن أزيلت جميع الحواجز التعريفية والكمية أمام انسياب البضائع ، إذ يؤدي  التبادل الحر للسلع حسب ادعاء الليبراليين الجدد إلى زيادة الرفاهية لدى جميع الأمم المشاركة في عملية التبادل ، مستشهدين بنظرية الاقتصادي الكلاسيكي الشهير ” دافيد ريكاردو”  عن التكاليف النسبية  التي وضعها في القرن التاسع عشر   . (1)  )                                        

لقد صاغ ” ريكاردو  ” نظريته عن التكاليف النسبية ليبرهن أن الدول الأقل إنتاجية من شركائها يمكنها الاستفادة  أيضاً من عملية التبادل الدولي للسلع ، موضحاً ذلك بمثاله الشهير عن إنتاج القماش والنبيذ في كل من بريطانيا والبرتغال ، إذ يمكن إنتاج هاتين السلعتين في كلا البلدين لكن إنتاج ساعة العمل في السلعتين يختلف بين البلدين، ففي حين تحتاج بريطانيا إلى بذل 2ر1 ساعة في إنتاج النبيذ لتحقق قيمة تعادل ما تنتجه بساعة واحدة من القماش ، أما البرتغال فتحتاج إلى ساعة كاملة في صناعة القماش لتنتج قيمة تعادل ما تنتجه 45 دقيقة في صناعة النبيذ ، ويستنتج ريكاردو أن مصلحة الطرفين تقتضي أن تتخصص بريطانيا بصناعة القماش وتحول الأيدي العاملة في صناعة النبيذ إلى معامل النسيج، وتصدر إنتاجها إلى البرتغال ، وتشتري بعوائد التصدير نبيذاً  ، بينما تتخصص البرتغال بصناعة النبيذ وتصدره إلى بريطانيا ، لتشتري بعوائد تصديره القماش من بريطانيا ، ( راجع د . لبيب شقير – تاريخ الفكر الاقتصادي )

ورغم البساطة والذكاء  اللذين طبعا هذه النظرية ، إذ تفسر بشكل واقعي  سبب ازدهار التجارة العالمية، ومصلحة البلدان المختلفة في إجراء عمليات التبادل، إلاّ  أنها مع ذلك لا تتمتع بأي أهمية في ظل المناخ الاقتصادي السائد في يومنا هذا ، والسبب في ذلك أن “ريكاردو ” عندما وضع نظريته الرائعة افترض أن الرساميل والمشروعات غير قادرة على الانتقال إلى الخارج ، إذ كتب قائلاً : ( إن تجارب الماضي تبين أن عدم توافر الأمان ، وكذلك كراهية كل إنسان لمغادرة مسقط رأسه والعيش في ظل حكومة أجنبية ، يعيقان تنقل رأس المال)   لكن بعد مضي قرن ونصف القرن، وفي ضوء ما آلت إليه التجارة العالمية إثر تسيّد أفكار الليبراليين الجدد  ، أصبحت  نظرية ريكاردو  في عالم النسيان ، إذ تتنقل الرساميل والمشاريع بين دولة وأخرى بسرعة خيالية ،  وأصبحت الأهمية الآن ليس للتفوق النسبي … بل للتفوق المطلق ، فحيثما تكون الشركات العابرة للقارات قادرة على إنتاج بضائعها في أماكن تتصف بتدني الأجور ، وتفتقد لتكاليف الضمان الاجتماعي والمحافظة على البيئة ، توطِّن نشاطها سعياً وراء التفوق المطلق … الإنتاج بأقل الأسعار ، لا فرق في ذلك بين دول آسيا أو أمريكا اللاتينية أو أفريقيا ما دامت تتمتع بمستوى تكنولوجي متطور ، و تستطيع تأمين مكونات الإنتاج بسهولة ويسر من أي  منطقة في العالم بعد التطور الهائل في وسائل النقل المختلفة ، فتحصل في النهاية ليس على انخفاض في تكاليف .. وأسعار سلعها فقط ، بل على تدنٍّ في سعر قوة العمل ، إنه التفوق المطلق في جميع البلدان والأسواق .. ولجميع السلع في آن معاً   . (2)

 ******

المراجع

1- الاتجاهات والإحصائيات – منظمة التجارة العالمية.

2- راجع فخ العولمة – مارتين و شومان  .

العدد 1105 - 01/5/2024