الأدب في المواجهة

احتدم الخلاف، تاريخياً، حول وظيفة الأدب والفن: هل هما لخدمة المجتمع، أو لخدمة الطبقة الاجتماعية أو لخدمة الحياة، ولنشر قيم الخير والحق والعدل والجمال.

ما من شك في أن وظيفة الأدب نابعة من طبيعته، فهو إنتاج اجتماعي ذو خصائص فردية، يجسد، في طبقات تكوينه وبناه الغنية، حقيقة عصره في سياق العصور السابقة، وهو إحدى تجليات البنى الفوقية للمجتمعات، فيتأثر بالعوامل السياسية والاقتصادية المهنية في كل حقبة زمانية وفق قدرة المبدع على تمثّل جوهر تلك الحقبة، ومهارته في عكسها بصور وتراكيب وخيال فني.

ذات الكاتب الإبداعية المكونة من خبرة وتجربة شخصية وعامة، تحددها الثقافة التي ترسم رؤية الأديب للحياة وللكون والمجتمع، هي المحرق الذي تنصهر وتتبلور فيه خبرة  الكاتب وعمق رؤيته للواقع الذي يعيش فيه.

لا يمكن إلزام الكاتب بموضوعات محددة مسبقة، تلبية لاحتياجات سياسية، أو تعبيراً عن موقف إيديولوجي، فالمبدع حر في اختيار موضوعاته، وفي تحديد موقفه من الموضوع الذي يتناوله، وإذا مورس عليه أي شكل من أشكال الضغط، يصاب إنتاجه الإبداعي بفقدان المصداقية، فكل إملاء خارج الذات الإبداعية للكاتب تعرّض نصّه للاهتزاز والضعف.

بدهي أن مهمة الأدب ووظيفته، إضافة إلى طبيعتها الثابتة، نكتسب وظائف ومهام وفق المستجدات والمتغيرات الحاصلة في العالم وفي الأوضاع المحلية، ففي حالتنا المحلية الإقليمية الدولية شديدة التعقيد والتداخل، يصبح الأدب في واجهة المعركة، بوصفه أداة توعية وتحريض، وبعث الروح الوطنية ونشر ثقافة المقاومة، وإلا وضع الأدب نفسه خارج حركة الواقع، وابتعد عن أهم واجباته في الكشف وتقديم الرؤى التي تساعد الناس على تحديد مواقفهم مما يحيط بهم ويحدد مصيرهم ويرسم مستقبل أوطانهم.

هذه العملية ليست بالبساطة التي تبدو من النظرة الأولى، لأنها فعل مركب تتداخل فيه إمكانيات المبدع في التعامل مع الواقع المحيط به، وقدرته على تفكيك البنى المكونة له، وتحديد الثابت والمتغير فيها، والكشف عن طبيعة القوى المحركة وتوضيح مصالحها وآفاق قدرتها على الاستمرار والتأثير على مجريات الأحداث حاضراً أو مستقبلاً.

وإذا كان الشعر من أقدر الأجناس الأدبية فاعلية في التأثير المباشر في النفوس، بفعل طاقاته البنوية ومهاراته في الإيجاز والإيحاء، فهو مدعو لإبراز هذه المؤهلات والانخراط في معركة المصير المشترك لأنه ديوان العرب في القديم، ومازال حتى يومنا الجنس الأدبي الأكثر قبولاً بين المتلقّين.

أما الأجناس الأخرى فتحتاج إلى فترة أطول من الإنضاج والتخمر في مرجل المبدع كي تعطي ثمارها، من حيث النضج وقوة التأثير، فالرواية على سبيل المثال لا الحصر، وهي من أكثر الأجناس الأدبية مقروئية وتداولاً، يحتاج إنتاجها إلى فترة زمنية تالية لأحداثها، لأنها تقوم على التشابك واستيعاب أعمق للواقع ومفرزاته.

يبقى الأدب، بكل أجناسه، عاملاً مساعداً في المواجهات الكبرى، فالأدباء هم مهندسو النفس البشرية، ومهمتهم، في الظروف القاسية والصعبة، بثُّ روح التفاؤل، والعمل على رصّ الصفوف من أجل مواجهة الأفكار الرجعية والظلامية التي تستهدف الإنسان في شبكة علاقاته الاجتماعية والإنسانية.

 

العدد 1107 - 22/5/2024