(الحرف القرمزي) لهاوثورن: صراع ضد مجتمع النفاق

قد لا يكون مؤرخو الأدب جميعاً، متفقين على أن رواية (الحرف القرمزي) للكاتب الأمريكي ناثانيال هاوثورن هي- إلى جانب (موبي دك) طبعاً – أكبر وأعمق رواية أنتجها الأدب الأمريكي في تاريخه كله على الإطلاق – حتى وإن كان بعضهم يرى هذا -، غير أن هذا لا يمنعهم من الاتفاق على أنها أقوى رواية ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر، منتمية إلى أدب كان يكتشف الإنسان الجديد وعلاقته ببيئته وبدايات مجابهته الضوابط والضغوط الاجتماعية. فالحال أن (الحرف القرمزي) تنتمي مباشرة، في روحها ومضمونها، الى أدب كان بدأ يرى أن ما يكبل الإنسان وحريته، ليس الشرائع والقوانين والسلطات، بل المجتمع نفسه. وهو أمر لن يُكتشف على نطاق واسع إلا بعد قرن وأكثر من صدور تلك الرواية التي لا تزال تمارس سحرها الكبير حتى اليوم، ولا تزال تُقتبس لا سيما في السينما والتلفزة، إذ لا بد أن نذكر أن هوليوود وحدها حققت عنها ما لا يقل عن ستة أفلام كبيرة … اللافت أنها كلها حققت من قبل مخرجين أجانب، من بينهم الألماني فيم فندرز، حيث يبدو الأمر وكأن الإطلالة على أمريكا العتيقة لا يمكن أن تمر إلا عبر تلك الرواية التي أطلت بها أمريكا على نفسها وعلى أخلاقيّاتها، بتساؤل استنكاري منذ أواسط القرن الذي صاغ إيديولوجيتها الطهرانية بأعنف ما يكون.

والحال أنه إذا كان النقد اختار، في غالب الأحيان، أن يحتفي – عن حق – بما في (الحرف القرمزي) من مزايا سيكولوجية وأسلوبية، وبما لها من أهمية تاريخية، فالحقيقة تقول لنا إن الأهمية الأولى لهذا الكتاب تتجاوز ما يمكن أن يعنيه بالنسبة إلى تاريخ الرواية الأمريكية نفسه. والباحث لا يحتاج إلى جهد كبير، بالطبع، قبل أن يكشف عما في هذه الرواية من روح عداء لعنصر النزعة الطهرانية التي سادت المجتمعات الأمريكية، لا سيما في مناطق الشمال الشرقي من الأمة – القارة. فهذا العداء يقفز رأساً أمام الأنظار ومنه تغتذي، مباشرة، حبكة الرواية. وفلسفة العداء للطهرانية هذه إنما تأتي لتجسّد، روائياً، فكرية أساسية حملها التجاوزيون: الفضيلة الكامنة في خطيئة ترتكب عبر اندفاع عفوي. فالمرأة (الزانية) في الرواية – كما سنرى – وعشيقها لم يكونا ولو للحظة موضع إدانة من المؤلف، بل إن إدانته تتوجه إلى القضاة وإلى الزوج المنتقم.

ولكن، قبل التمادي يجدر بنا، طبعاً، أن نتوقف عند أحداث هذه الرواية التي ترجمت إلى معظم لغات الأرض، ومن بينها العربية طبعاً. والمحور الأساس في الرواية يدور من حول آرثر ديمسدال، الكاهن الشاب الذي يثير بخطبه وبنمط حياته النموذجي، حماسة ابناء الرعية المحبين له في إنكلترا الجديدة، بوسطن، في الحقبة ذاتها من القرن الثامن عشر. بيد أن ما يختبئ في الحقيقة خلف شخصية آرثر، إنما كان أمراً آخر تماماً. إذ حدث أن استاذاً إنكليزياً مكتهلاً كان أرسل إلى البلدة، زوجته الشابة الحسناء هستر برآين، وقد آلى على نفسه ان يلحق بها ليعيشا هناك. غير أن الهنود الحمر يأسرونه ما يؤخر لحاقه بزوجته سنتين. وهو إذ يصل أخيراً إلى البلدة يجد زوجته واقفة عند عمود الاتهام حاملة طفلة بين ذراعيها. خلال غيابه، إذاً، حملت هستر وأنجبت. وهي إذ حوكمت رفضت أن تسر باسم عشيقها. فأوقفت عقاباً لها إلى العمود، و(زُيّن) ثوبُها بحرف قرمزي اللون هو حرف Aالذي يشي بكونها زانية ADULTERESS.

عندما يجد الزوج هذا كله في انتظاره يخفي عن الجميع شخصيته منتحلاً اسم روجر سلنغوورث، مجبراً هستر على أن تقسم بأنها لن تكشف حقيقته لأحد. وبعد ذلك تذهب هستر، محمّلة بالعار والاحتقار، حاملة طفلتها بيرل، لتقيم عند تخوم البلدة. وهناك تفتح لها حالها آفاق عيش جديدة، فتكرس وقتها لفعل الخير ومساعدة البائسين ما يجعلها تكسب احترام الجيران شيئاً فشيئاً. أما روجر فإنه يتجه إلى ممارسة الطب وقد قرر أن يكتشف بنفسه غريمه في حب هستر، غير دارٍ أول الأمر أن الغريم ما هو سوى الكاهن آرثر، الذي حين حوكمت حبيبته لم يجد لديه من الشجاعة ما يجعله يعترف بما اقترف، فتركها في مهب الرياح والأحكام القاسية. وطبعاً ينتهي الأمر بالزوج الى اكتشاف الحقيقة، ما يجعل من الجزء الثاني من الرواية تصويراً لعنف انتقام الزوج ولهبوطه إلى جحيم الانهيار الأخلاقي والإنساني بفعل إقدامه على ذلك الانتقام. وأخيراً، بعد انقضاء سبع سنوات يصل فيها الكاهن ديمسدال إلى حافة الجنون والموت، تبرز هستر، التي كانت محنتها قد أعتقتها تماماً، حتى من إحساسها بفعل الخطيئة، تأتي لتقترح عليه أن يرحلا معاً إلى أوربا. في البداية يقبل، لكنه فجأة يعتبر ذلك إغواءً من الشيطان له لإفساد إيمانه، وينتهي به الأمر إلى الاعتراف أمام أهل البلدة جميعاً بالحقيقة، وذلك بالقرب من عمود الاتهام الذي كان أولاً من نصيب هستر وحدها، وهناك يموت بين ذراعيها.

قد يكون لهذه الرواية، في أحداثها، طابع ميلودرامي ممتزج بشيء من المناخ القوطي، لكن نظرة معمقة إليها ستضعنا أمام بعدها الفلسفي الخالص. فالحال أن هاوثورن، إذ يستنكف عن توجيه أي إدانة لهستر، ويكتفي بمؤاخذة آرثر، الكاهن، على جبنه ونفاقه لا على الفعل الذي ارتكبه، يركز الإدانة كلها – كما أسلفنا – على القضاة الذين حاكموا هستر وحكموا عليها، ثم بخاصة على الزوج المنتقم. فبالنسبة إلى هاوثورن يصبح هذا الزوج، على رغم أنه أصلاً (ضحية)، فاعل الشر، إذ ينيط بنفسه مهمة اقتحام ضمير (المذنبين). وهاوثورن يصور هذا الانتقام بوصفه (الخطيئة الوحيدة التي لا تغتفر). ولا يبدو هذا من خلال الفعل نفسه، ولكن من خلال الصورة التي يقدمها هاوثورن للزوج: إنه عديم الحس. وهو لا يسعى إلى معاقبة (المذنبين) إلا بدافع من وله ذهني بارد. ناهيك بأن البعد الفلسفي للرواية يتسم بما يقوله مسكوتها: إن الحضارة تأتي إلى المكان الموحش البدائي بالقانون – والقانون الأخلاقي بخاصة – في الوقت الذي تأتي فيه بفكر خرق ذلك القانون. وعلينا أن نلاحظ هنا، أيضاً، أن العبارة التي افتتحت الطبعة الأولى من (الحرف القرمزي)، أشارت إلى أن حرف Aالذي يرمز إلى الزنى، هو الحرف نفسه الذي يبدأ به اسم آدم ADAMالذي (اقترف الخطيئة الأولى باسمنا جميعاً) وفق تعبير ناثانيال هاوثورن.

ولد ناثانيال هاوثورن عام 1804 في مدينة سالم في ولاية ماساشوستس، تلك المدينة التي عرفت مفاهيم السحر والخطيئة أكثر من أي مدينة أمريكية أخرى، حفيداً لواحد من غلاة الزعماء الطهرانيين وابناً لأسرة جعلت الخوف من الخطيئة واحداً من سمات حياتها. ومن هنا ليس غريباً أن نعتبر كتابة هاوثورن لرواية (الحرف القرمزي) نوعاً من التمرد على أخلاق اسرته، وبالتالي أخلاق فئات عريضة من المؤسسين الأمريكيين الطهرانيين، الذي، كان همهم دائماً أن يفضلوا النص على الإنسان، وشريعة الجمع على حساسية الفرد. ولقد امضى هاوثورن طفولته وحيداً، مع أمه الأرملة المعتزلة الحياة والناس. فأتيح له أن يقرأ كثيراً. وهو بعدما تلقى دراسته الثانوية في برونزويك، عاد إلى مدينته سالم حيث بدأ يكتب الروايات والقصص القصيرة وينشرها، ملتحقاً لفترة بوظيفة في الجمارك في بوسطن، ثم عمل في مزرعة. والحال أننا نجد آثار ذلك كله ماثلة في الكثير من رواياته وقصصه، وحتى في قصص الأطفال التي كتبها، مقتبساً معظمها من الأساطير اليونانية القديمة وبعض الأساطير المحلية. أما (الحرف القرمزي) فكتبها في عام 1850 بعدما خسر وظيفته في مرفأ سالم. والحق أن نشر هذه الرواية عاد عليه بشهرة لم يكن يتوقعها، وهو أدرك هذا، خصوصاً، حين توجه عام 1857 إلى إنكلترا حيث عُيّن قنصلاً أمريكياً في ليفربول، فوجد الناس يعرفون أعماله ويقرؤونها على نطاق واسع. وهو ظل يكتب حتى رحيله في عام 1864، ويعتبر اليوم من كبار الكلاسيكيين في الأدب الأمريكي والعالمي، لا سيما منذ كتب عنه هنري جيمس في عام 1879 دراسة بالغة الأهمية.

(الحياة)

العدد 1104 - 24/4/2024