هنـــــــدســــــة بنـــــاء الطبقـــــة الوســـطى

إن البيئة المشكلة للطبقة الوسطى اجتماعياً ما زالت قادرة على النمو، فكثير من المنتمين لها قد غادرها من الناحية المالية لضعف الدخل، وبالتالي ضعف الإنفاق وعدم القدرة على استمرارهم بأسلوب العيش السابق نفسه، من ناحية المعيشة أو النشاطات الثقافية والاجتماعية والدور المركزي كرافعة لوعي وانسجام المجتمع،
ولكن فقرها سطحي وليس عميقاً، فعودة النمو الاقتصادي وبعض الإصلاحات قد تعيدها، وكذلك الجزء الذي خسرته عن طريق هجرة العقول والهجرة القسرية يمكن استعادته بأساليب مختلفة تدعم اللحمة الوطنية والدينامية لتسريع عودة المجتمع للتعافي.

إن البرامج التي يجب السير بها تأخذ منحى إسعافياً وآخر متوسطاً واستراتيجياً، فالمنحى المتوسط والاستراتيجي مرتبط بعودة الاستقرار وإنهاء حالات الإرهاب والعنف والتطرف والظروف الاستثنائية مقترناً بحل سياسي يولد إدارة تنموية تأخذ الحوكمة والحكم الرشيد وسيادة القانون والشفافية والمساءلة كمداخل لمكافحة الفساد والهدر وفق معايير التنافسية و الجودة،
ويتحقق ذلك عبر جدولة ما نريده وفق جداول زمنية ووفق أولوية تسخر لها الإمكانات، ومن ثم البحث عن الإمكانيات لدى الحكومة ثم لدى القطاع الخاص ومن ثم أساليب التمويل الأخرى. وبالتالي فالتشاركية ضرورة حتمية للمرحلة المقبلة، ولكن ضمن شروط صحيحة تحقق مصالح الحكومة والقطاع الخاص بما يحقق طاقات إنتاجية جديدة ولا تأخذ شكل الخصخصة أو تقديم القطاع العام هدية لبعض الشخصيات، وكذلك فإن إنعاش العملية الاقتصادية ضروري لتحسين معيشة المجتمع عبر الانتاجية الحقيقية، وهذا ما يتطلب دعم الزراعة بقطاعيها الحيواني والنباتي، وتقديم التسهيلات، وهنا يجب التذكير برفع سعر الأسمدة إلى حدود 210 آلاف ليرة للطن مترافقاً مع رفع أسعار الطاقة، ما قد يعرقل نمو هذا القطاع، وكذلك يجب تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة كونها المشغل الكبر لفرص العمل والمضيفة للقيمة المضافة للكثير من المواد الأولية التي تغنينا عن الاستيراد وتكون دافعة للصناعات الكبيرة، وتشجيع المغتربين السوريين وأصحاب الرساميل التي هربت للعودة والاستثمار وفق تقديم مزايا وخرائط استثمارية في المناطق الآمنة،
وكذلك يجب العمل على سياسة نقدية ومالية واقعية تعيد توازن الليرة بما ينعكس على أسعار المحروقات وتكلفة أغلب المصنوعات، وبالتالي ينعكس على تكاليف معيشة المواطنين. ولكن هنا لابد من دور لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في ضبط ومراقبة الأسعار وفرض الفوترة ومراقبة جودة البضائع، وكذلك لا بد من تشكيل لجان محلية كجمعيات حماية المستهلكين مستقلة، هدفها مراقبة الأسعار وجودة المواد وفضح الفاسدين والمتلاعبين بقوت الشعب ،
وكذلك يجب أن يكون هناك إصلاح للتعليم بمختلف مراحله بعد أن أصبح تعويم القطاع الخاص هو الأهم على حساب جودة التعليم العام الذي رفعت تكاليفه وأهمل لتسويق الخاص الهادف لجمع الأموال على حساب الجودة، وكان لاعتماد التعليم على الكم نتيجة عكسية جعلت المال والنفوذ أهم معايير التقييم لحساب التعليم ذي العائدية المنخفضة. وقد شهد هذا القطاع ترهلاً وتراجعاً على الرغم من توفر البنى التحتية المتميزة، ولكن إقحام الخاص انعكس سلباً على أداء العام وعلى كفاءة ومردودية الكوادر،
وكذلك لا بد من تفعيل دور المؤسسات والمنظمات لتصحيح مسارها ونهجها لأخذ دورها الحقيقي الذي كان لها تاريخية به في غربلة الاقتراحات وعرقلة القرارات التي تضر بالشرائح الاجتماعية المكونة للطبقة الوسطى. وقد كانت في المراحل السابقة في مرحلة ثبات وعطالة استطاعت من خلالها قوى معينة تمرير قرارات أضرت بأغلب المواطنين، ومنها رفع أسعار الدواء والأسمدة ومضاعفة قيمة الضرائب والرسوم وغيرها. إن البعض يستغل سكون بعض المنظمات للترويج لمجتمع مدني بديل ذي خطوط غير آمنة وأدوار خطيرة، وكلنا يعرف دور جزء منها بداية الأزمة وقبلها وحتى هذه الفترة في تضليل الرأي العام وتزوير الحقائق والعمل كأدوات استخباراتية لأجهزة معادية، وأغلبها تحت حجة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك جزء منها ديكور أو لتبييض الأموال أو للاغتناء على حساب جوع النازحين.
ومن ناحية تحسين الوضع المعيشي الآني فإن زيادة الرواتب في ظل الظروف الحالية قد تسبب بتضخم متزايد في ظل عدم وجود ضوابط للأسعار، وكذلك فإن العاطلين عن العمل تتجاوز 50 بالمئة وعدد النازحين حوالي 7 ملايين إضافة إلى عدم وجود قوانين تفرض أي زيادة على القطاع الخاص الذي يحتج بالأزمة باستمرار،
وكذلك القدرة المالية للحكومة، ولكن لابد من منح زيادة دورية مقطوعة 25 ألفاً قد يكون منتصف هذا الشهر مناسباً كبداية لمنحها، وكذلك توسيع دوائر استحقاق المعونات والأغلبية بحاجة إليها، ويجب العمل على زيادة عوائد الحكومة من الإحاطة بالفساد من خلال مواجهة التهرب الضريبي وإعادة ترسيم إيجارات الدولة والتقليل من الهدر و النفقات،
ولكن ذلك آني مساير لسياسة نقدية عبر أداوت التدخل وضبط الصرف ومحاربة المضاربات والمضاربين والحد من استيراد الكماليات من سيارات فاخرة وعطور وألبسة أجنبية ومكافحة ما يهرب منها، ومواجهة من يلعب نفسياً بهذا السعر، وخاصة ازدياد قيمة التحويلات من جهة، وهذه الفترة تشهد عودة المغادرين لبلدنا بحجة العمل، وكل ذلك مرتبط بضرب الفساد بيد من حديد،
وإن عجزت الإدارة المدنية فدفع جهات أزموية للتصدي لها عبر قرار سياسي ومنح سلطات كاملة مع مزايا تشجع على العمل بشرف وتقنية.

في بلدنا دائما كنا نقول إن وجدت النية يوجد أي شيء! أكيد ما خسرناه من خلال هذه الأزمة ومن خلال ما ارتكبه الفاسدون والتجار المرتبطون بهم أي تجار الأزمة كبير وضخم ولا يمكن أن تتحمله اي دولة، ولكن وجود خطط مرحلية واستراتيجية تأخذ بأسلوب الأهمية والأولوية الضرورية وكذلك لسياسات تعيين تعتمد على الكفاءة و التقنية وعلى السير بنهج يراعي الخصوصية السورية،
والابتعاد عن سياسات تحابي البعض، هو علاج آني لجسم سيغدو معافى. دولة مثل سورية بشعب عميق متجذر تسارع الدول لجذبه قادر على العودة القوية في ظل الثروات المتوفرة، ولنا أسوة بما حصل في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية وخروجهم مدمرين وما وصلوا إليه فيما بعد نتيجة ثقافة متراكمة ومتجذرة… الأفق جميل إن عرفنا استثماره.

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024