حول المصالحة الروسية ــ التركية

 دعمت تركيا خلال الشهرين الماضيين المجموعات الإسلامية المسلحة في معظم المعارك في الشمال السوري، كبالون اختبار، لمعرفة ما يحضّره الجيش السوري وحلفاؤه حول معركة حلب. وفعلاً استطاع (جيش الفتح) استرداد عدد من القرى في ريف حلب الجنوبي دون رد فعل يذكر من القوات المدافعة، ما وضع كلّاً من تركيا والمملكة العربية السعودية في دائرة التكهن حول طبيعة أدوار كلّ من قوات الجيش السوري وعناصر حزب الله، والتسهيلات اللوجستية لكل من القوات الروسية والإيرانية، وأيّ المحاور سوف يجري بها اختراق قوات المعارضة؟ وماهي وعددها وعمقها؟ لينكشف الميدان أخيراً على هجوم كبير للجيش السوري وحلفاؤه على طريق الكاستيلو الاستراتيجي شمال مدينة حلب.

تشير معظم الدراسات الغربية إلى أن نتائج معركة حلب القادمة، ستفوق محدودية القوى العددية والمساحة الجغرافية الدائرة فيها. ويتوقع من هذه المعركة أن تعيد صياغة العلاقات الدولية، على ما قالته ناتالي نوغريد في صحيفة الغارديان، كما ستحدد بشكل نهائي طبيعة الكيان السوري وهل سيتشظّى أم لا. إضافة إلى أن نتائج هذه المعركة ستؤسس لقواعد اشتباك إقليمية جديدة وصارمة، بين كل من تركيا والمملكة العربية السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى، وهو ما عكسته إشارات متعددة من الدبلوماسية الإيرانية إلى أن ضبط أمن الجناح الغربي لإيران، في ظل تشابك الصراعات الإيديولوجية والدينية والقومية في المشرق العربي، مرتبط بالأمن الإقليمي للمشرق العربي كاملاً. بالتالي لن تسمح إيران بأي خلل في المحور الحليف لها يمكن أن تحدثه كل من الرياض وأنقرة.

في المقابل تعتبر السعودية وإلى درجة كبيرة تركيا، أن المحور الذي تشكله إيران هو (قوس) عدائي، يمكن أن يهدد في أي لحظة ثقلهما الإقليمي، بالتالي لن يسمحا بأي شكل من الأشكال باستقلال هذا القوس وتماسكه ، ومفتاح خلخلته هو استمرار الصراع في سورية. من هنا تأتي أهمية معركة حلب، إذ إنه- كما وصف روبرت فيسك في مقالته في صحيفة الإندبندنت- (بعد معارك حلب يمكن الكتابة إن الناس بدأت بالعودة)، في إشارة إلى أن هذه المعركة ستشكل نهاية الحرب.

من أهمية معركة حلب ومن متابعة الأسلوب الدبلوماسي لتركيا الآن، لا بدّ لنا أن نربط بعض الأحداث ببعضها. ومن ملاحظة أنه بموازاة اعتذار تركيا لروسيا أطلقت المجموعات الإسلامية المسلحة المدعومة كلياً من تركيا (معركة اليرموك) في ريف اللاذقية الشمالي، وشارك فيها إضافة إلى (جبهة النصرة) كل من (حركة أحرار الشام) و(فيلق الشام) و(جيش النصر) و(جيش العزة) و(جيش التحرير) على جبهة تعتبر الأكبر في تاريخ المعارك في هذا الريف، وتمتد على طول نحو 40 كم من كباني شرقاً إلى كنسبا والبيضة غرباً. وجرت الإضاءة إعلامياً بشكل مكثف على معلومات تفيد بأن (جبهة النصرة) قد استحوذت على صواريخ مضادة للطيران، وأنها لن تُستخدم إلا بإذن (الدولة التي قدمت هذه الصواريخ) أي تركيا.

هنا لا يمكن فصل ما يجري التحضير له في حلب وريفها الجنوبي وما يجري في ريف اللاذقية الشمالي، فكلا الجبهتين هي رسائل سبقت استعادة العلاقات بين البلدين، تُمهد ربما لاتفاق ما تحاول أنقرة أن تبحثه مع روسيا وهي مرتاحة في الميدان. لقد أدركت تركيا أن الاستمرار بالقطيعة المباشرة مع روسيا له تكاليف باهظة، تبدأ بخطورة دعم الحركات الكردية وتسليحها، ولاتنتهي بالخسائر الاقتصادية الكبيرة، وأن الوجود الروسي في سورية أصبح دائماً ولا يمكن تجاهله، ما دفعها للتفكير بسياسة أكثر براغماتية تعطي لروسيا حقها الطبيعي المتأتي من عناصر قوتها على الأرض، وإيجاد صيغة للتفاهم مع روسيا تضمن لهما نفوذهما في الساحة السورية. هكذا تحولت المسألة من أسلوب تصعيد وانغلاق بين البلدين إلى لغة انفتاح.

إن تبلور الدور الكردي في الشمال السوري والدعم الأمريكي والغربي له قد ضغط الخيارات الاستراتيجية التركية، وأصبح لزاماً عليها أن تنحو نحو مقاربة أكثر ارتباطاً بكيفية مواجهة الخطر الكردي أكثر مما يتعلق بإسقاط (النظام) السوري، كما كان سابقاً. لكن السؤال هنا هو: هل بعد عدم نجاح المخطط التركي خلال السنوات الخمس الماضية في سورية، وبعد خيبتها من السياسة الأمريكية تجاه الأكراد في سورية، قد وجدت المبرر للاندفاع نحو روسيا في مقايضة يتخلى فيها الأتراك عن (جيش الفتح) وبقية المجموعات الإسلامية المسلحة وإغلاق الحدود السورية التركية، مقابل التخلي عن معركة ريف اللاذقية الشمالي أي جبل التركمان والقرى المحيطة بها؟.

مهما يكن، تطورات الميدان ستكون العامل الحاسم في نسف أيّ اتفاق يمكن أن يحصل على حساب المصالح الوطنية السورية العليا، أو تمكينه.

العدد 1105 - 01/5/2024