إضاءات حول جوهر التشاركية

 منذ أعوام مضت، وعلى وجه الدقة منذ انعقاد مؤتمر الشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي أقامته الجمعية البريطانية السورية بعنوان (تمويل البنية التحتية) يومي 31 تشرين الأول و1 تشرين الثاني من عام ،2009 سعت الحكومات المتعاقبة لإصدار قانون التشاركية والترويج للتسريع للعمل به، باعتباره الوصفة السحرية المثلى لدفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية،
وبأنه الأداة التمويلية الأنجع التي يمكن من خلالها تمويل مشروعات البنية التحتية- على اعتبار أن الفجوة التمويلية وعجز الموازنة العامة للدولة هما السببان الوحيدان للتراجع الاقتصادي والتدهور الاجتماعي الذي تمر به سورية- هذه الوصفة السحرية طُرحت في فترة ما يسمى الازدهار والانتعاش الاقتصادي (إذا افترضنا أن معدل النمو الاقتصادي بغض النظر عن عدالة توزيعه هو المؤشر الوحيد للازدهار والانتعاش).

وبعد مرور أكثر من ست سنوات على انعقاد المؤتمر، ورغم اختلاف الظروف والبيئة الاقتصادية والسياسية، ذلك أن معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي في تدهور، ومعدلات البطالة في ازدياد، والتضخم الجامح أصبح مسيطراً وغيرها من مؤشرات تعكس التراجع المستمر للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية،
صدر قانون التشاركية رقم 5 لعام 2016 وتعليماته التنفيذية في عام ،2017 إيماناً من الحكومة بأهمية تشجيع القطاع الخاص وزيادة مشاركته في التنمية الاقتصادية وفي معالجة مشاكل ومعوقات التنمية، خصوصاً في مجال تمويل وتنفيذ مشروعات البنية التحتية والخدمات والمرافق العامة التي تساعد على تحسين معيشة الناس.

سأحاول في هذا المقال التطرق إلى بعض النقاط على أسس علمية وموضوعية بعيداً عن الشعارات الراديكالية، التي لم يُشَر إليها بوضوح، أو يجري إغفالها أو عدم إعطائها وزنها الحقيقي عند طرح مفهوم التشاركية؛ والتي تعد من جوهر التشاركية. وبما أن القانون أصبح أمراً واقعاً، لذا لن أدخل في صميم الجدال إن كانت التشاركية خصخصة أم لا؟ أو مبررات اللجوء إلى التشاركية وغيرها من المواضيع التي أخذت حيزاً واسعاً من النقاش في أوساط الأكاديميين وأصحاب القرار.

معايير اقتراح المشروع على أساس تشاركي

لا تُعتبر (التشاركية) مفهوماً جديداً ومبتكراً، ولا يُعدّ دخول القطاع الخاص إلى المرافق العامة والبنية التحتية آلية وطريقة جديدة لتأمين الخدمات العامة. ترجع جذور التشاركية إلى القرن السادس عشر حين مُنح أول عقد امتياز في فرنسا عام ،1554 بغية بناء إحدى قنوات المياه، أما في سورية فقد طُبّق هذا النظام في عشرينيات القرن الماضي من خلال مشروع مياه الفيجة، وفي خمسينيات القرن الماضي من خلال مرفأ اللاذقية.

وازداد الاهتمام بشكل أكبر بالتشاركية في دول مختلفة من العالم منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، لعدة أسباب، من أهمها الحاجة المتزايدة إلى الخدمات العامة، لذلك لجأت الدول إلى القطاع الخاص لكي ينفذوا لصالحها وتحت مراقبتها وإشرافها بعض الأنشطة الاقتصادية بهدف توفير الخدمات العامة للمواطنين.
وبذلك فإن التشاركية هي عبارة عن تغيير طريقة إنجاز المشاريع التي كانت تقوم بها الدولة ليصبح القطاع الخاص شريكاً للدولة في تنفيذ تلك المشروعات، وإن تسمية (الشراكة أو التشاركية بين القطاعين العام والخاص) ليست إلا مصطلحاً (تعبيراً) أُحدث ليشمل الصيغ التعاقدية بكل أشكالها، التي تتيح للقطاع الخاص أن يتشارك مع القطاع العام في إنشاء المرافق العامة والبنية الأساسية، أو تشغيلها، أو صيانتها، لضمان الحصول على أفضل الخدمات العامة من حيث الجودة وبأقل التكاليف وبأسرع وقت.

أي أن معايير اقتراح أحد المشروعات على أساس تشاركي يجب أن تركز على النقاط التالية:

– توفير الخدمة العامة بأفضل جودة للمواطن.

– توفير الخدمة العامة بأسرع وقت للمواطن.

– توفير الخدمة العامة بأقل كلفة وأعلى مردودية ممكنة للدولة.

– توفير الخدمة العامة باستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية.

إذ إن التشاركية تركز على مخرجات المشروع  والخدمات المقدمة، وهو ما يميزها عن تنفيذ المشروع على أساس تقليدي، الذي يعتمد على المدخلات والأصول والموجودات، وإن مسؤولية القطاع العام في عقود التشاركية تكمن في وضع وتحديد مواصفات الخدمة التي يحتاجها المستهلك والتي على أساسها يجري اختيار الشريك الخاص.

وبما أن الخدمة العامة هي الخدمة التي تقدمها الحكومة للأشخاص الذين يعيشون ضمن سلطتها، ولأهمية بُعدها الاجتماعي فهي (أي الخدمة العامة) يجب أن تكون متاحة لجميع المواطنين، بغضّ النظر عن الدخل أو الجنس أو العرق.
وإن بعض المنظمات الدولية المعنية بشؤون التنمية تعتبر الخدمات التي تقدمها مشروعات البنية التحتية حقّاً من حقوق الإنسان الأساسية وليست مسألة اقتصادية بحتة (الحق في مياه صالحة للشرب، الحق في التعليم، الحق في الضمان الاجتماعي وغيرها من الخدمات التي تضمن الأمن والأمان الاجتماعي والإنساني للمواطن)؛ من هنا نجد مدى حساسية دخول القطاع الخاص إلى دائرة تقديم الخدمة العامة.

تقاسم المخاطر في إطار التشاركية

لكننا نعيش في فترة مليئة بتحديات وصعوبات كبرى اقتصادية واجتماعية. منذ بداية الأحداث والاقتصاد السوري في تراجع مستمر، فقد جرى تدمير (جزئياً أو كلياً) العديد من مرافق البنية التحتية الأساسية من طرق وسدود وأنابيب المياه والصرف الصحي والطاقة الكهربائية……،
واختلفت أولويات الحكومة في تلبية الحاجات المتزايدة للمواطنين، مما فرض ضغوطاً مضاعفة أثرت على قدرة الدولة في توفير بنية تحتية حديثة ومستدامة وموثوق بها تسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية وخلق فرص اقتصادية واستثمارية تساعد في توفير فرص عمل جديدة. لذا أولت الحكومة اهتماماً خاصاً بالتشاركية من أجل تحقيق قفزة نوعية في عملية التنمية في مرحلة إعمار وإعادة إعمار سورية،
باعتبارها أحد الخيارات لتنفيذ البنية التحتية وإحدى أدوات تقديم الخدمات العامة.
والبنك الدولي كان واضحاً بهذا الخصوص، إذ أشار إلى أنه : «………في بعض الحالات، يمكن لهذه الشراكات أن تحقق منافع أكبر من خلال حشد ما يمتلكه القطاع الخاص من قدرات إدارية وروح الابتكار وخبرات، ولكن في أوقات أخرى يمكن أن يكون نهج القطاع العام التقليدي أكثر ملاءمة».

لذلك – قبل اللجوء إلى التشاركية- يجب أن ندرك تماماً كلاً من المزايا التي يمكن جنيها من التشاركية، والمخاطر التي قد تترتب عليها، فالتشاركية ليست وصفة سحرية خالية كلياً من المخاطر؛ ويعد تقاسم المخاطر ركناً أساسياً في مشاريع التشاركية،
أي تقاسم المخاطر وتوزيعها بين القطاع العام والقطاع الخاص وإسنادها للطرف الأكثر قدرة على تحملها وبناء على المكاسب التي يمكن أن يجنيها.

وعادة يتحمل القطاع الخاص جزءاً من المخاطر ذات الصلة بالمشروع (التمويل والتشغيل والبناء والتصميم..) وأي مخاطر أخرى قابلة للتأمين، أما القطاع العام فيتحمل أيضاً جزءاً من المخاطر ذات الصلة بالمشروع، يضاف إليها مخاطر الاقتصاد الكلي (التضخم، انخفاض سعر الصرف، التغيير في السياسات العامة….)
والمخاطر غير قابلة للتأمين (مثل المخاطر الناجمة عن القوة القاهرة: الحروب والكوارث الطبيعية)؛ وهنا تكمن مخاطر التشاركية وحساسيتها في الوقت الراهن إذ إن جل المخاطر المحتملة لأي مشروع في الظروف الراهنة هي مخاطر الاقتصاد الكلي ومخاطر القوة القاهرة، وبالتالي ستتحمل الحكومة معظم المخاطر المترتبة على المشروع،
ووفقاً للبنك الدولي فإن العديد من المشروعات في دول مختلفة والتي قامت على أساس تشاركي أُلغيت وتحملت أعباءها بالكامل الحكومة نتيجة المخاطر الناجمة عن القوة القاهرة، وقد بدأت قيمة المشروعات المنفذة على أساس تشاركي بالتراجع منذ عام ،2012 فبعد أن بلغت 217.5  مليون دولار انخفضت إلى ما دون 31 مليون دولار عام 2016.

لذلك فإن طريقة تقييم المخاطر وإدارتها تحدد قدرة المشروع لتحقيق أهدافه، وينبغي أن يحظى بدراسة وبحث تفصيلي ودقيق نظراً للظروف التي نمر بها حالياً، ويشكل تقاسم المخاطر جزءاً لا يتجزأ من صيغ عقود التشاركية.

الدعم الحكومي في ظل التشاركية

وفي ظل الظروف الراهنة وعدم الاستقرار السياسي والأمني في سورية لن يكون القطاع الخاص سواء المحلي أو الأجنبي مستعداً للاستثمار في البنية التحتية، لذا قد تلجأ الحكومة إلى تقديم دعم معين لتعزيز جذب الاستثمار الخاص في هذه المشروعات، فقد يكون في شكل ضمانات مالية أو قروض من القطاع العام، أو ضمانات سيادية،
أو إعفاءات ضريبية وجمركية، أو حماية من المنافسة أو إعانات لاستكمال العائد على المشروع وأشكال مختلفة من الدعم… إلا أن أي قرار دعم يجب أن يستند إلى القيمة الاقتصادية والاجتماعية للمشروع،ويجب ألا يؤدي مستوى الدعم المقدم للمشروع ونمطه إلى تحمّل الدولة مسؤوليات غير محدودة،
فضلاً عن أن الإفراط في تقديم الدعم قد يحول دون قدرة الدولة على تقديم ضمانات لمشروعات أخرى قد تكون على جانب أكبر من الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة.

خطوات اختيار مشروعات التشاركية

لذا ينبغي على الجهات العامة أن تجيد تنفيذ الإجراءات التي تتيح شراكات ناجحة، وقبل اتخاذ القرار بتنفيذ المشروع على أساس تشاركي يجب أن يكون هذا القرار قراراً واضحاً من قبل الحكومة، وهو ما يمكن تحقيقه على مرحلتين:

1- المرحلة الأولى (مرحلة الإعداد المبدئي للمشروع) تتعلق بمدى جدارة المشروع بناءً على التخطيط الاستثماري السليم وإجراءات تقييم المشروعات(على سبيل المثال استخدام تحليل التكلفة والعائد)، ومن ثم ترتيب كل المشروعات حسب عائداتها)الاقتصادية و/أو الاجتماعية(وحسب أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

2- المرحلة الثانية (مرحلة إقرار المشروع) تتعلق بنوعية التعاقد، بمعنى تحديد أي المشروعات التي يمكن أن تقوم بها الجهة العامة وأي المشروعات يمكن طرحها على أساس التشاركية، ولبلوغ هذه الغاية يمكن استخدام مقارن القطاع العام الذي يعتبر أحد أهم أدوات القياس الكمية التي يمكن أن تحدد ما هو أفضل عطاء مقدم من القطاع الخاص لإبرام عقد الشراكة، وبالتالي أي المشروعات سيحقق أقل كلفة وأعلى مردودية ممكنة (القيمة مقابل النقود  الأفضل).

وقد تستغرق الموافقة على فكرة المشروع عدة أشهر من الإعداد الدقيق والدراسة التفصيلية له من خلال مراجعة النقاط التالية: (الحاجة إلى الاستثمار المقترح وطبيعته، بدائل الاستثمار المتاحة وسبب اقتراح خيار الشراكة، المخاطر والآثار المتعلقة بالمشروع وانعكاسها على الأمن القومي، التكلفة السنوية مع الأخذ بعين الاعتبار القدرة على تحمل العبء المالي، مدة المشروع)؛ هذه النقاط يجب ألا تغيب عن ذهن الجهات العامة والحكومة عند طرح أي مشروع على أساس تشاركي.

فعلى الرغم من أن هناك العديد من المشروعات التي نُفذت على أساس تشاركي قبل صدور قانون التشاركية (إدارة محطة الحاويات في مرفأ طرطوس عام ،2006 إدارة محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية عام ،2009 شركات الاتصال الخلوية عام 2004)،
وعلى الرغم من تسارع الجهات والمؤسسات العامة وتهافتها لاقتراح مشروعات كي تنفذ على أساس تشاركي، وهي لا تندرج ضمن الأولويات الاقتصادية، أو أولويات عملية إعادة الإعمار (عرض استثمار قطعة أرض مجهزة بالبنية التحتية ضمن معمل سجاد حلب، الذي طرحته الشركة العامة لصناعة الصوف والسجاد، مجمع سياحي وفقاً لما عرضته وزارة السياحة)،
إلا أن أي جهة لم تذكر مبررات اللجوء إلى التشاركية لتنفيذ المشروع، ولماذا اقتُرح هذا المشروع دون غيره؟ وما هي الدراسة التي قامت بها التي تؤكد جدوى هذا الاقتراح؟ وعلى أي أساس اختير هذا الشريك دون غيره؟
وما هي المزايا الإضافية التي يمكن أن يحصل عليها الاقتصاد الكلي إذا ما نُفذ المشروع على أساس تشاركي بدلاً من أن تقوم به الدولة؟

والعديد العديد من الأسئلة التي يجب طرحها والإجابة عنها قبل التفكير باقتراح مشروع ما على أساس تشاركي. على سبيل المثال: ما هو الهيكل التمويلي الأمثل للمشروع؟
هل سيمول القطاع الخاص المشروع من موارده الذاتية..أم جزء منها سيكون عن طريق القروض؟ هل سيحصل المشروع على القروض من الأجهزة المصرفية المحلية أم الأجنبية؟ ما هي الضمانات التي تقبل بها الأجهزة المصرفية والمالية لتمويل المشروع؟
وفي حال كان أحد الشركاء أجنبياً كيف سيتم تحويل أرباحه إلى الخارج بالقطع الأجنبي علماً أن سعر الخدمة يسدد بالعملة المحلية؟ وما مدى انعكاس ذلك على ميزان المدفوعات على الأمد الطويل؟
وتعد هذه الاستفسارات من أبسط الاستفسارات لأنها ترتبط بالبعد المادي والمالي فقط لتقديم الخدمة، لكن عندما يتعلق الموضوع بالبعد الاجتماعي يصبح الأمر أكثر تعقيداً، كالعلاقة مع المستهلك وقدرة مختلف الشرائح الاجتماعية على تحمل العبء المالي للتعرفة الجديدة، وجودة الخدمة ونوعيتها وغيرها من القضايا السياسية التي تمس الحياة الاجتماعية.

لذلك يجب أن تكون القرارات مدروسة بعناية في إطار من الشفافية والوضوح، فالتشاركية عملية معقدة من العلاقات والتشابكات، إضافة إلى حاجتها إلى رساميل ضخمة ومستوى تكنولوجي عالِ واستغراقها مدة زمنية طويلة نسبياً لتحضير العقود، فهي أيضاً تحتاج إلى خبراء من شتى الاختصاصات:
خبراء اقتصاديين من أجل تقييم المشروع على مستوى الاقتصاد الكلي وهل سيؤدي الغرض الاقتصادي والاجتماعي، ومحللين ماليين من أجل اختبار أثر التكاليف وتحديد التعريفات، ومحامين وقانونيين لتحليل الإطار التشريعي ووضع التعديلات في حال لزم الأمر إذ لا يمكن للتشاركية أن تخضع لنموذج تعاقدي وحيد نظراً لطبيعتها المعقدة،
بل ينبغي أن تتكيف مع كل حالة، فلكل قطاع سماته الخاصة ولكل مشروع مقتضياته وطلباته الخاصة، ومهندسين وفنيين لتحديد التقنيات والتكنولوجيا الواجب استخدامها، وفريق من العلاقات العامة من أجل إعلام الرأي العام حول مبررات التشاركية،
وغيرهم ممن يتمتعون بالخبرات والمؤهلات الإدارية والاجتماعية والسياسية المختلفة. لذلك فإن نجاح الشراكة غير محتم وهو منوط بدرجة التزام الشركاء، وبجوهر المشروع ونوعيته، ومدى نجاعة المشروع الاقتصادية والاجتماعية والإنتاجية والتشغيلية.

 

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024