حجج المعادين لمقولة « ازدياد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً »!

من المؤكد أن المرء يستطيع أن يذكر العديد من الميزات التي يتميز بها الأغنياء دون الفقراء، وهذا هو السبب في أن كثيراً من الناس يجدون مقولة (ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً)، فكرة مقبولة وصحيحة في المقام الأول، إلا أن الذين يرفضون هذه الفكرة يطرحون السؤال التالي:
هل يمكن أن تكون هذه المقولة هي حقاً السمة المسيطرة في عملية توليد الدخل والثروة في اقتصاد السوق؟ وهم يدّعون أن أفضلية الأغنياء هي أكثر وضوحاً في المدى القصير، أما في المدى الأطول، فإن الأفضلية للأغنياء حسب زعمهم تصبح أمراً أقل وضوحاً، ويعتبرون أن عوامل أخرى أكثر أهمية من ملكية الأصول تلعب دوراً فيما يتعلق بتحديد الدخل والثروة في المستقبل.

إنهم يعتبرون أولاً أن الاستقطاب الشديد لتوزيع الثروة لا يتسق مع الأدلة والبراهين، ويضربون على ذلك ما يقوله بعض المؤرخين الاقتصاديين، بأن نمط توزيع إيرادات الرجل الأمريكي في المئة والثمانين عاماً الأخيرة، تميز بفترات طويلة من الاستقرار النسبي، وفترات أقصر من التغير الجوهري.

فنمط توزيع الدخل حسب رأيهم في الفترة ما بين نهاية الحرب الأهلية الأمريكية والحرب العالمية الأولى كان مستقراً، ثم انخفض التفاوت الاجتماعي بحدة، أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها مباشرة، ولكنه ازداد تدريجياً بحلول عام 1929 إلى المستوى الذي كان عليه قبيل الحرب العالمية الأولى، ومنذ بداية الكساد الاقتصادي الكبير حتى عام 1949 انخفض التفاوت الاجتماعي، ثم ظل مستقراً بعد ذلك لما يقارب الـ30 عاماً، إلا أنهم لاحظوا أن التفاوت الاجتماعي أخذ يزداد بصورة عامة بدءاً من عام 1979.

ولقد حاول منظرو هذه المقولة أن يفسروا هذا التنامي في التفاوت الاجتماعي إلى معاناة العمال الشباب قليلي التعليم، وهو ما يعكس التغيرات في العرض والطلب، بالنسبة للعمالة.

لقد ازداد العرض للعمال الشبان الأقل تعليماً بالنسبة إلى الأكثر تعليماً، وانخفض الطلب، بدءاً من الثمانينيات، على العمال الأقل تعليماً، عندما أدت تقوية الدولار إلى الإسراع في إعادة تشكيل الصناعات، وزادت من النزوح الصناعي، إلى الصناعات عالية التقنية وصناعة الخدمات، وإعادة تسكين عمليات التصنيع الأقل تطوراً في مناطق ما وراء البحار.
إنهم إذاً يؤكدون أن التفاوت المتزايد الملاحظ، ما هو إلا انعكاس للتغيرات الجذرية في التقنية مثلما كان في الثورة الصناعية.

ويؤكدون ثانياً أن التغير في موقع توزيع الدخل، خلال ما يسمى بالحراك الحقيقي هو لافت للنظر، فعلى سبيل المثال هناك شخص واحد فقط من بين أغنى عشرة أشخاص بقي على ما هو عليه في عام 2008 بالاعتماد على عام 1983.

لقد حدثت تغيرات واسعة في ترتيب الأكثر ثراء، إن الواقع يشير أن قليلاً من الورثة للثروات الضخمة، التي تراكمت في سنوات العشرينيات المزدهرة هم الذين بقوا ضمن مجموعة الأكثر ثراء، إن ثروات عائلات مثل (روكفلير) و(ميلون) وغيرها، تتضاءل، مقارنة مع الثروات التي كوّنها حديثاً أناس من أمثال بيل غيتس ووارين بوفيت.

في ضوء هذه الشواهد لا يملك المرء كما يزعمون إلا أن يضع صحة المفهوم المتعلق بازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً موضع التساؤل، إنهم يؤكدون أن هناك بعض القوى الموازنة التي تعادل الاتجاه الملاحظ، لازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، بما يسمح للبعض من الفقراء- مع كل افتقارهم إلى الموارد (مثل قوة العمل الرديئة والصعوبة في تنمية رأسمال، والافتقار إلى العلاقات الاجتماعية أو المهنية.. إلخ) بأن يحلوا بشكل ما محل أغنياء، بينما يتساقط العديد من الأغنياء مع كل أفضلياتهم المزعومة من مواقعهم المهيمنة.

فإذا كان الأمر كذلك كما يقولون، فسوف يؤدي التأكيد على فكرة ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، مع إغفال الاتجاهات الموازنة التي تسهم في كثير من الحراك وفي تحقيق نمط شامل ومستقر من توزيع الدخل والثروة، لا إلى تشويه الحقائق فقط، وإنما سيمثل كذلك تعبيراً عن سوء فهم عميق للطريقة التي يعمل بها الاقتصاد.

وثالثاً- هناك بعض العوامل الواضحة التي تحول دون التراكم اللانهائي للثروة.. مثلاً عندما يتوفى مؤسس الثروة تتوزع ثروته بين عدد متزايد من ذريته، مما سيؤدي إلى تناقص أنصبة كل واحد منهم مع توالي الأجيال، أو من المحتمل أن يكون الأثرياء هدفاً لصائدي الثروات الذين يتمثل سلاحهم الرئيسي في الجاذبية والفتنة، أو يميل الأثرياء ولاسيما ورثتهم، إلى التبذير والسعي وراء أشياء أكثر جاذبية من جمع الأموال، وقد تتقلص الثروات عبر الأجيال عن طريق ضرائب الميراث، على الرغم من وجود طرق تعمل على تقليل هذا التأثير.

ولكن ليس لأي من هذا الأهمية نفسها لعملية (تنظيم المشاريع وإطلاقها)، يمكن خلق الثروة أو تدميرها، فهذه العملية هي القوة الأكثر أهمية التي تضع حداً لعملية الميزة التراكمية للأغنياء، وتشكل أساساً لكثير من الحراك الاجتماعي.

إن منظم أو مطلق المشروع يخلق الثروة عن طريق اكتشاف واستغلال الفرص المربحة، وذلك بوضع الموارد في استخدامات ذات قيمة أعلى من تلك التي يتصورها الآخرون حتى ذلك الحين، كما أنها يمكن أن تقضي على ثروة هؤلاء الذين يبنى ثراؤهم على افتراض أن الغد سيكون كاليوم، وأنه ليس هناك احتمال للمنافسة من جانب مطلقي المشروعات الجدد.

ورابعاً- إذا كانت عملية إطلاق المشاريع الجديدة تقوم على اكتشاف الفرص المحققة للربح، فهل يكون صحيحاً كما يقولون أن الأغنياء يظلون في وضع أفضل من حيث إمكان اكتشافها، بالنظر إلى قدرتهم على تكريس موارد أكبر للبحث عن تلك الفرص.. ويجيبون بأنه لو أن الأمر كذلك فسيكون هناك ما يبرر صحة مقولة (ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً)، لكن هل هذا الرأي صحيح؟

الواقع أن المشكلة في هذا الرأي كما يؤكدون هي أن عملية اكتشاف فرص الربح ينظر إليها على أنها أشبه ما تكون بتمشيط الشاطئ الرملي بآلات كشف معدنية، فكلما غطيت مساحة أكبر مستخدماً المزيد من الموارد، زادت فرص الاكتشاف، وفي هذه الاستعارة من المفترض أن تكون عارفاً بالمساحة العامة التي سيجري البحث فيها.

لكن الواقع كما يزعمون هي أن إطلاق المشاريع الجديدة مرتبط ارتباطاً وثيقاً باكتشاف الفرص بالدرجة الأولى وليس بملكية الموارد، وليس للأغنياء أفضلية على الفقراء في هذا الصدد.

إن الطريقة التي يفكر فيها العقل الإنساني تجعل من الأغنياء كما يزعمون أقل ميلاً من الفقراء للمغامرة بعيداً عن الدروب المطروقة، وحيث تكمن روح المبادرة إلى إطلاق المشاريع الجديدة.

إن الفهم الشائع لمقولة (ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً) الذي يروج له بعض المفكرين الباحثين عن الشهرة أو الذين تحركهم أهداف سياسية، إنما يؤدي إلى الاعتقاد، كما يزعم رافضو هذه النظرية، بأن جماهير الناس العاديين محكوم عليهم بالفشل، وأن نظاماً غير عادل على هذا النحو يجب أن يسقط بصورة ما، أو يجري تعديله، بيد أن هناك آثاراً سلبية ستكون مترتبة على هذا الطرح، كما يزعم رافضو هذه المقولة، لأنهم كما يدعون، إن تحقّق ذلك، فستكون نتيجته مجتمعاً أكثر فقراً وأكثر جموداً، وتغيب فيه المبادرات الإبداعية.

إن الحجج التي يجادل بها رافضو مقولة (ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقراً) تتسم بأنهم يتجاهلون فيها عن عمد دون شك التطرق إلى القيم المضافة التي يجري الحصول عليها، سواء بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، والتي تأتي جميعها من جيوب صانعي الخيرات المادية.

 

العدد 1105 - 01/5/2024