أبقراط يتخلى عن قسمه..رفقا بالمرضى أيها الأطباء!

 (إن الحرب هي المدرسة الحقيقية للأطباء)! هكذا يقول أبو الطب وواضع أسسه أبقراط ويقصد بهذا القول أن الحرب تُخرج أسوأ ما في البشر إلا عند الأطباء فهي تخرج خلاصة مسيرتهم المهنية وأخلاقياتهم وسلوكهم في ممارسة تلك المهنة النبيلة التي تخلص البشر من عذاباتهم الجسدية وآلامهم الحيوية والعضوية..

في الحرب لا يقل دور الجندي المقاتل لشراذم وهوام الوحوش البشرية عن دور الطبيب الذي يتلقى بحنو جرحى الحرب والمتضررين من قذائف الموت وبارود الحقد على أجساد غافلة قرر الزمن أن يقحمها في مسيرته لتطحنتها طاحونة الحرب البلهاء..في كل الحروب حضور الطبيب هو كحضور النرجس في الشتاء بعد أول مطرة تجود بها السماء..عطاء غير متوقع في لحظات الصقيع…

في أحد بنود قسم أبقراط الذي مازالت كليات الطب تواظب إلى اليوم على أن يتعهد خريجوها الجدد به.يقسم بالتالي: (وإذا صار في حاجة إلى المال أن أعطيه نصيباً من مالي).فما بال أطباء سورية قد تناسوا الحرب وتناسوا ظروف الفقر ومستوياته المريرة وواقعها على جيوب مرضاهم…المرضى لا يطالبونكم بعدم استيفاء أجور معاينتكم ولكن يعاتبونكم على غلاء ذاك الأجر.. فأين قسمكم؟؟

تقول احدى المريضات أنها دفعت لطبيب ذائع الصيت في مدينة دمشق أجر تشخيص مبلغا يتعدى حدود الخيال 8000 ليرة سورية..فهل هذا معقول؟؟

أضحى المريض السوري يكابر على أوجاعه ويتجاهلها في بعض الأحيان خشية الوجع الأكبر الذي ينتظره لقاء تشخيص الطبيب،وبات الشعب الفقير والمتوسط الحال يلجأ إلى الطب الشعبي أو إلى استسقاء المعلومات الطبية من محرك البحث جوجل على الشبكة العنكبوتية، أو إلى مشافي الدولة التي تعج بآلاف المراجعين يومياً وتفتقر إلى الإدارة والمواد الطبية اللازمة..أو اللجوء إلى نصيحة الصيدلي فهي الخيار الأنجع والأكثر ثقة..فخبرة الصيدلي ومعرفته بمواد تركيب الدواء والأهم شراء الدواء من عنده هو ما حفز الصيادلة على استقبال شكوى المرضى ووصف العلاج لهم دونما تقاضي المال لقاء المشورة الطبية..ازدهار مثمر ومشهود ويعود بالنفع على الطرفين في علاقة الصيدلي بالمريض وخاصة هذه الأيام المقفرة..

إن انعدام الأمان منذ بداية الحرب السورية والتهديدات التي طالت الأطباء تحديداً، والمراد منها إفراغ سورية من أطبائها وتقليص الدور العلمي والنخبوي فيها، كل هذا دفع بخيرة الأطباء السوريين إلى ترك بلادهم واللجوء إلى البلدان التي حفزتهم على الهجرة..لقد تقلص عدد الأطباء ومن بقي منهم وخاصة ذوي الخبرة الكبيرة قام وللأسف برفع أجر تشخيصه أضعافاً،متناسياً الفاقة التي غرق بها معظم الشعب السوري نتيجة الحرب..

قد يقول قائل: إن الطبيب أيضا تضرر كثيراً من عواقب الغلاء وارتفاع أسعار الصرف وهبوط قيمة الليرة السورية مما أدى إلى غلاء المستلزمات الطبية وربما فقدانها في بعض الأحيان، كما يحدث مع أطباء الأسنان تحديداً واضطرار الطبيب إلى شراء المواد الأغلى ثمناً، ويجب ألا ننسى ارتفاع قيمة الإيجار وما يتبعها من فواتير كهرباء وماء ضمن العيادة وغلاء أسعار المواد الطبية الضرورية كالقطن والشاش والمعقم، ولا ننسى تكاليف اضطرار الطبيب إلى تشغيل المولدة نتيجة التقنين الكهربائي الكبير..   لن ننسى كل هذه المشاكل والعراقيل التي تواجه الأطباء، ولكن بالمقابل يجب أن يضع الطبيب أمام عينيه أننا في ظروف استثنائية والواجب يفرض عليه أن يقهر نعيم الأموال ويجسد أمام مرضاه النفحات الإنسانية التي تبلسم الآلام كي يعاود المرضى الثقة بأطبائهم ويعودوا إلى مشورة الطبيب فهي الأفضل على الإطلاق..

هذا ما نأمله ونتمناه جميعنا..فالتاريخ لن يرحم كل من ضيق على العباد..وكما خلد التاريخ العظماء والرحماء فسيخلد أيضا الأطباء السوريين الذين تشربوا تعاليم أبقراط وأقسموا عليها.. فرفقاً بالمرضى الفقراء ورفقاً بأبقراط كي لا يتخلى عن قسمه الذي حلفتم عليه.

العدد 1104 - 24/4/2024