الإرهاب ما بين الأمس واليوم

تروي كتب تاريخ الإرهاب في الغرب أنه في السادس عشر من أيلول عام 1920 شهدت نيويورك مأساة مروعة لا سابق لها في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي ذلك اليوم كانت الحياة تسير وفق وتيرتها المعتادة: الشوارع مكتظة بالمارة، والسيارات والعربات التي تجرها الخيول،
واحدة من تلك العربات شقت طريقها بهدوء إلى قلب المدينة، حيث شارع (وول ستريت) الشهير، وفي الساعة 12 ظهراً وصلت إلى غايتها في أكثر مناطق الحاضرة الأمريكية ضجيجاً وازدحاماً، أمام بناية (بنك جيه بي مورجان)، ففي مثل هذا الوقت يومياً، يخرج آلاف الموظفين والعمال لتناول طعام الغداء في المطاعم التي تزدحم بها الطرقات، كثيرون منهم كانت تلك رحلتهم اليومية الأخيرة، فقد انفجرت العربة المحملة بكميات هائلة من الديناميت.

يروي بعض الشهود أن الحطام المختلط بأشلاء الضحايا ودمائهم كانت تتطاير بارتفاع المبنى المكون من 34 طابقاً، وتقول سجلات الشرطة الأمريكية إن عدد القتلى وصل إلى 38 قتيلاً، وعدد المصابين بإصابات خطيرة بلغ 45 مصاباً، كان ذلك الحادث هو الأول من نوعه والأكبر في تاريخ الولايات المتحدة، وقيل إن المنفّذ كان أحد المتطرفين دينياً من أصل إيطالي.

توارت تلك المأساة في جوانب بعيدة من الذاكرة الأمريكية بفعل مرور الزمن، وذلك لأن ما تلاها بعد ذلك كان أكثر مضاعفة وهولاً مثل هجوم (أوكلاهوما)، الذي نفذه متطرف يميني مسيحي، ثم هجمات 11 أيلول عام 2001 في نيويورك وواشنطن التي نفذها تنظيم القاعدة.

منذ ذلك الوقت لم تتوقف العمليات الإرهابية في الغرب، في لندن وباريس ومدن أخرى أوربية، إلا أن العمليات التي تنفذ حالياً تختلف كثيراً عن العمليات السابقة، إذ يرى الخبراء الغربيون أن مرحلة جديدة من العمل الإرهابي قد بدأت، وهي تختلف عما يسبقها من حيث التكتيك والأدوات المستخدمة فيها، والأهداف المتوخاة، وأساليب التنفيذ والتجنيد والتخطيط، وكذلك من حيث الدوافع ومسارح العمليات، ونوعية الضحايا وحجم الدمار الحاصل جرائها.

إن هذه العوامل مجتمعة تشكل ملامح عصر إرهابي جديد يرفع رايته السوداء جيل جديد من الإرهابيين الذين يختلفون أيضاً عمن سبقهم، وإن كانوا جميعاً يشتركون في صناعة الموت والدمار للأبرياء ولمؤسسات الدول والشعوب.

لقد انتهى عصر استهداف الشخصيات البارزة، وبدأ عصر قتل المواطن العادي، وغدت الملاعب والمسارح والشوارع هي الهدف المفضل لدى هؤلاء المجرمين لأن استهدافها يحصد ضحايا أكثر.

انتهى كذلك عصر العضو المرتبط تنظيمياً بجماعة إرهابية، وانتهى معه التحرك الجماعي المركزي، ليبدأ عصر (الذئاب المنفردة)، وكل من داعش وجبهة النصرة وما يلف لفها غدوا أصحاب السبق في هذا الاتجاه.

وخلافاً للانطباع السائد، فإن الحقائق التاريخية التي تسجلها مجلة (نيويوركر) الأمريكية تقول إن العالم شهد في الماضي موجات من الهجمات الإرهابية أكثر مما يشهده اليوم، وحسب قاعدة بيانات الإرهاب العالمي لجامعة ميريلاند الأمريكية، فقد قُتل أكثر من عشرة آلاف شخص في أكثر من 18 ألف هجوم إرهابي منذ عام 1970 حتى عام 2015.

وتشكل سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي الحقبة الأكثر دموية، فخلال هذين العقدين عرف العالم منظمات إرهابية مخيفة مثل (بادرماينهوف) الألمانية و(الألوية الحمراء) الإيطالية، و(إيتا) الإسبانية، و(الجيش الجمهوري) الإيرلندي وغيرها، وبلغ معدل عدد الهجمات في أوربا خلال تلك الفترة عشر عمليات أسبوعياً، وهو معدل لا يحصل حالياً، إلا أن حجم الدمار وعدد الضحايا أصبحا أكبر.

إن أحد الاختلافات المهمة بين إرهاب اليوم وإرهاب الأمس، يتعلق بالإطار الفكري للجماعات الإرهابية، فهي في معظمها حالياً ذات مرجعية دينية، بينما كانت في الماضي ذات مرجعيات قومية وعلمانية تتبنى أهدافاً سياسية وتركز عملياتها غالباً داخل حدود المنطقة ذات الصلة بقضيتها، في حين أصبح العالم بأسره في هذه الأيام مسرحاً لعمليات داعش الإرهابية وغيرها.

ويعتقد مدير الدراسات الأمنية في جامعة (جورج تاون) الأمريكية أن الغرب يحتاج إلى ما بين خمس إلى عشر سنوات قبل أن ينجح في كبح المد الإرهابي الحالي، وإلى أن يتحقق ذلك سيظل يحبس أنفاسه منتظراً الضربة المقبلة التي لا يعرف متى ولا من أين تأتي.

 

العدد 1105 - 01/5/2024