جمود القلوب…منحوتات صخرية سورية

تكبر الحروب في القلوب أكثر مما تكبر على مساحات الجغرافية التي تكتسحها، وتعمل فعلها الجهنّمي في حرق أوردة الجسد، وتفحيم لبّ الهوى وموطئ الذكريات وسرداب الروح أكثر بكثير مما تحرقه وتذروه رماداً على أرض الواقع، من حرق للمباني ورماد للمنازل ومحتوياتها، فالعامل النفسي والمعنوي للحرب أشد من تبعات هذه الحرب المادية منها والخرائبية.

فبعد خرائب النفوس لن يكون هنالك مجال للحديث عن خرائب الحجر، وبعد حرائق القلوب سنخجل حتماً أن نتكلّم عن حرائق الشجر أو حرائق ممتلكات البشر.

يشعر المواطن السوري ومنذ بداية الحرب بمشاعر أقصته عن الواقع الذي يعيشه فبات كمن نحت في صخرة على يد فنان محترف، الجمود والحزن هما عنوان تلك المنحوتة الصخرية، يكفي أن تمر في الشوارع والأزقة الشعبية منها كي تلمس معنى الجمود الحياتي البادي على وجوه المواطنين السوريين،
تحت صدمة الحرب تخبّئ الكثير الكثير من الصدمات الأخرى فمن صدمة القتال والرصاص والموت والهاون، إلى صدمة الخطف والقتل ومشاعر الكراهية التي طفت فجأة، إلى صدمة الدماء التي مازالت تفوح رائحتها على الطرقات ولم تتوقف حتى اليوم، كل هذه الصدمات جعلت المواطن في طور التحول إلى منحوتة صخرية،
أكمل تفاصيلها الواقع المادي المزري، وغلاء الأسعار الفاحش، وفقدان المواد الأساسية المهمة كالغاز، ولن نتغاضى عن خبطات الدولار المفتعلة، ولعبة التجار الخبيثة، ولن ننسى أيضاً صدمة المواطن بحكومات سابقة لم تكن على قدر المسؤولية، كل هذه العوامل جعلت شوارع سورية ممتلئة بالمنحوتات الصخرية الحزينة الجامدة.

جمود المشاعر هذا جعل المواطن بعيداً عن الأحاسيس التي كان يحملها قبل الحرب، فبعد كل تلك الصدمات لن نحاسبه إن هو قصر عن أداء واجباته الاجتماعية تجاه أقاربه أو أصدقائه،
فالحياة باتت صعبة للغاية ولا تحتمل المزيد من الأشخاص والمزيد من المجاملات، والأعباء المادية المرافقة لكل ذلك، لذلك تقلصت الحياة الاجتماعية، وبات المواطن يحسب حساباً حتى لفنجان قهوةٍ، فما بالك بالعزائم التي كانت عامرة فيما سبق ولا يخلو بيت منها قبل اندلاع الحرب؟؟.

جمود المشاعر نلمسه واقعاً مشهوداً، فبعد كل صور الموتى الذين مازال المواطن يراهم إلى اليوم يتزايدون لحظة بلحظة، سنخجل إن طلبنا منه النّواح والنّدب فالموت صار عادياً وصور الموتى باتت جزءً من أمسية يقضيها المواطن في منزله يشاهد التلفاز أو يتصفح الشبكة العنكبوتية..

جمود المشاعر أيضاً واضح وجلي في نفوس أصحابها، ففي البداية كان المواطن يتابع القنوات الوطنية، عسى أن يسمع من أحد المحلّلين السياسيين ما يريح قلبه، وينهي تلك المأساة الحاصلة في وطنه، لكن الأمور كانت تكبر أكثر فأكثر، والحرب تستعر أكثر فأكثر، وحتى عندما بدأت الأسعار بالارتفاع الجنوني كان المواطن يهتم بأحاديث المحللين الاقتصاديين
ووعود المسؤولين في لجم كل متلاعب باقتصاد البلد، ولكنه عندما يئس من وعود المحللين السياسيين وزاد من خيبته عدم هبوط الأسعار، رغم ادّعاء أصحاب القرار بالحدّ منها، كل تلك العوامل صرفت نظر المواطن عن مشاعره ونسي الأمل، وأنكر فيما بعد كل كلام يقال في معالجة أوضاعه الحياتية، والنتيجة عدم الاكتراث وعدم التفاعل في مشاعره التي دخلت في طور التحجر.

من مرّ عليه كل تلك الأرزاء سيتعوّد تلقائياً، حسب منهج الحياة، ومنهج علم النفس فالصدمة الأولى هي الأصعب يتلقّاها المصدوم فتُعمِل فيه أثراً كبيراً وألماً لا قدرة لقلبه على تحمله،
ولكن إن تتابعت المصائب والأهوال فستصبح تلك الصدمة الأولى جداراً محصناً، وكلما زاد مستوى الألم أكثر كلما تحصّن ذلك الجدار أكثر فأكثر، ليشبه في قساوته قساوة الصخر، ولا أكثر من المنحوتات الصخرية في شوارع سورية، فالجدار دعم بالموت والقهر والجوع والحرمان، وفقدان البيوت والأمان والأعزاء.

مؤلم هو حال السوريين الشرفاء، من كانوا قبل الحرب يضجّون بالحياة ويمتلؤون بها تسمع أصوات سهراتهم وضحكاتهم مع عائلاتهم وأقاربهم مشارق الأرض ومغاربها،
من كانت روائح منازلهم عابقة بالأكلات الدمشقية والحلبية، وعزائمهم لبعضهم تختلط بروائح الحب والسعادة، فتشكل وصفة سحرية لواحة خاصة بالسوريين وحدهم لا ينافسهم عليها أحد..

لن يذيب ذلك الجبل الجليدي القابع في أعماق السوريين رغماً عنهم سوى أمل وحيد، ذاك الأمل هو انتهاء الأزمة السورية التي طال أمدها، فإن انتهت ورُمّم الصدع سنشهد ذوباناً لجبل الجليد وسيعود المواطن كما سابق عهده،
ولن نشهد إلا الوجوه النابضة بالحيوية تملأ شوارع دمشق وتكسر بحرارتها وحبها كل منحوتة صخرية رسمتها أيادي مفتعلي الحرب ومكملي مشهد الألم،
وستبقى وجوه الدمشقيين كما هي، جميلة رقيقة معطاءة، حتى وإن جمدت ملامحها في لحظات قهرية، فإن الذهب يبقى ذهباً مهما خُلط بمعادن أخرى وأثناء الصهر سيحافظ الذهب على مكانته، وهكذا السوري الأصيل.

 

العدد 1105 - 01/5/2024