من سيغضب للأقـصى؟

استوقفتني عبارة تفوح منها رائحة الوقاحة والصلف الصهيوني قالها هرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية قبل خمسين عاماً من قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين: (إذا حصلنا على مدينة القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي عمل، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسوف أحرق جميع الآثار التي مرت عليها قرون).

وقد تماهى أول رئيس لوزراء العدو بن غوريون في هذا لمجال عندما تشدق بنفس حامضية: (إنه لا معنى لإسرائيل دون القدس ولا معنى للقدس دون إسرائيل).

وعندما أكمل العدو بعد حرب 1967 احتلاله للقدس الشرقية، التي يقع فيها المسجد الأقصى، بدأ حملة تهويد محمومة لشرقي القدس، فأعلن عن توحيد شطري القدس تحت الإدارة الإسرائيلية، ثم أعلن رسمياً في 30 تموز عام 1980 أن القدس عاصمة أبدية موحدة للكيان الصهيوني.

لقد كان التركيز على القدس مسألة مركزية في الفكر الصهيوني لما تمثله من أبعاد دينية وتاريخية، وقد بدأ التحريض اليهودي واضحاً بهذا المجال منذ العشرينيات من القرن العشرين، وركز اليهود ومطالبهم في البداية على الحائط الغربي للمسجد الأقصى (حائط المبكى).

بدأ الصهاينة بحملة هستيرية من الحفريات تحت المسجد الأقصى في محاولة يائسة لإيجاد أي دليل حول هيكلهم، ولكن جل ما وجدوه هي آثار إسلامية تعزز مكانة القدس وهويتها الإسلامية.

لقد بلغ عدد الاعتداءات 40 اعتداء بين 1967 و1990، ولم تنفع اتفاقيات أوسلو ومحطات التسوية السلمية في وقف الحفريات التي استهدفت تهويدها ومحو طابعها الديمغرافي العربي، كان من أبرز الاعتداءات عملية إحراق الأقصى 1969.

بعد مرور شهر على هذا الحريق أنشئت منظمة المؤتمر الإسلامي، عندما تنادى زعماء الدول الإسلامية لمناقشة سبل حماية المسجد الأقصى والقدس الشريف.

غير أن ضعف الأمة الإسلامية التي ينهش جسدها تضارب ولاءاتها، ولأنها غير قادرة على اتخاذ أي قرار، لأنها مكبلة بقيود وإيديولوجيات مفروضة من قوى استعمارية على تبني خطوات ملموسة من قبلها، مما جعل من هذه المنظمة مؤسسة تكاد تكون عديمة الجدوى، بحيث لا تتجاوز أعمالها عقد الاجتماعات وإصدار بيانات الاستنكار وتفريغ المشاعر.

هناك مليار ونصف المليون مسلم يتمددون على كامل قارات العالم، فماذا هم فاعلون أمام جرح يقيح في جسد الأمة الإسلامية والعربية؟

إن سياسة التهويد هي سياسة غير مفصولة عن الصراع الدائر بين الصهاينة والشعب الفلسطيني، وهي بالمحصلة لتصفية القضية الفلسطينية ونقلها من خطوط التماس بين المقاومة والاحتلال إلى ذلك الخيار الأحمق الذي وقعوا على وثائقه تحت ثلج أوسلو في الوقت الذي لم تكتمل فيه ذخائر قوتنا لنمتحنها في الميدان.

اليوم فلسطين في عين الحصار، وجوه رجالها تكتنز غضباً لم تعرفه من قبل، ووجوه نسائها ترشح صبراً أو يقيناً وإيماناً لم تعرفه من قبل، ووجوه أطفالها ساهمة لكنها تختزن عيوناً صحت على الحلم وعرفت طرقه.

في الجهة المقابلة شعارات ترقص في خناجر العرب كل يوم، والخطابات النارية والشجب عن بعد لا توازي رصاصة واحدة تصوب نحو جندي الاحتلال الصهيوني أو حجر في قبضة طفل فلسطيني يلوح به في وجه العدو.

إن فلسطين تحتاج إلى مدافعكم لا مدامعكم وتريد أن تلامسكم نخوة المعتصم وهي تتكئ في صبرها بانتظار الفجر القادم الذي سوف يحرر أقصانا من الأسر الذي طال.

لقد تقاعدنا عن الصراع قبل أوانه، وهو صراع لا يحتمل الارتجال وسوء الحسابات من غرفة تفاوضية مغلقة، يسيل فيها حبر أوسلو على أوراق فلسطينية صفراء، وجنود الغزاة الذين نهشوا صدرها وحبسوا نبض قلبها وأطلقوا في رئتيها سحب الدخان العابق برائحة البارود، وجنودهم المستعجلين لاصطياد فرائسهم مثل كلاب الصيد المسعورة.

ونؤكد جازمين أن كل الإجراءات الصهيونية الحالية والقادمة السياسية والدينية هي محاولة طمس كل وشم على جسد فلسطين، ورغم معاناة الشعب الفلسطيني من جذور الاحتلال وسياساتها الممهورة بالقتل والقهر والإجلاء، فإنهم لا يتورعون عن ارتكاب المجازر بحق هذا الشعب الصابر، كما حدث في 8 تشرين الأول 1990 عندما استشهد 34 وجرح 115 آخرون حينما حاولت جماعة صهيونية وضع حجر الأساس الهيكل داخل المسجد الأقصى وكما حدث في 25-27 من أيلول 1996 أكدت انتفاضة الشعب التي قامت بسبب افتتاح اليهود لنفق تحت الجدار الغربي للمسجد الأقصى مما أدى إلى استشهاد 62 فلسطينياً وجرح 1200 آخرين.

وما تشهده القدس في هذه المرحلة من معاودة الصهاينة انتهاك حرمة الأقصى لفرض تهويد (حائط البراق) وتركيب بوابات إلكترونية على مداخل المسجد، هي خطوة سياسية مدروسة، تستهدف تهويد القدس ومحو طابعها الديمغرافي العربي، وبالتالي وضع الوشم الصهيوني على ساعدها.

إن الشعب الفلسطيني في الداخل لم يتقاعس للحظة للدفاع بكل الوسائل المتاحة عن الأقصى بكل أطيافه ومكوناته، وهو يصر على المواجهة والتحدي ليبقى الأقصى أقصانا لا هيكلهم وهم يعون خطورة الخطوة السياسية الخبيثة لتحويل خطوط التماس إلى قضية دينية.

العدد 1104 - 24/4/2024