الصهيونية والقارة السمراء

 من نافل القول أن اليد العربية في ستينيات القرن الماضي كانت قد وضعت بقوة على مفاعيل السياسة في إفريقيا، نتيجة للسياسات الصائبة التي انتهجتها المرحلة الناصرية كقائدة لحركة التحرر في الوطن العربي وإفريقيا، وقد حشدت الأكثرية من تلك القارة السمراء مؤيدة للحق العربي في فلسطين، فأعلنت معظم الدول لهذه القارة مقاطعتها الدبلوماسية للكيان الصهيوني الغاصب.

لكن هذه المرحلة الذهبية للعصر العربي لم تدم، فقد غفا العرب طويلاً عن هذه القارة، مما سمح للعدو أن يتسلل إليها بحرية تامة ويعيد كل ما فقده من جفاء إفريقيا له، وأن يزحف نحو بسط يده على هذه القارة.

إن للتنكر الإفريقي مجدداً للقضية الفلسطينية أسبابه ومبرراته المقنعة، فهي:

عربياً: إن لعنة كامب ديفيد لم تقتصر على أنها أحدثت تصدعاً استراتيجياً في الموقف العربي، بل إنها لاتزال تمثل حتى الآن خندقاً معادياً يقطع الطريق أمام أية محاولة عربية لحشد كل الطاقات والقوى المتاحة، والأخطر من هذا أن تلك الاتفاقية أدخلت متغيراً انقلابياً على الإدراك السياسي العربي الذي درج على التعامل مع العدو الصهيوني باعتباره العدو اللدود الذي اقتحم الوطن العربي بالقوة وفرض عليه مشروعه الاستيطاني.

فلسطينياً: في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض كان الاحتفال الثاني، فقد تطوع المخلصون للقضية بالسفر إلى أوسلو والسهر في صقيع ليلها، من أجل ترتيب المائدة وإعدادها لحفلة الشواء، وقد خلعوا على رؤوسهم الكوفية الفلسطينية مطرزة بالنجمة السداسية ليكتمل المشهد ومفارقاته المثيرة، فقد تصافحت الأكف وتعارفت الوجوه، وقد جاء في البند الأول لهذا الاتفاق المشين:

(تعترف (م.ت.ف) بحق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن).

إن إشاعة مفاهيم التسوية قد مهد للاعتراف بالكيان الصهيوني، إذ حرف جوهر الصراع العربي الصهيوني وحوّله إلى نزاع اقتصادي وتكنولوجي، وبالتالي فقد جرد الحركة الصهيونية من سماتها الحقيقية، لأنه كيان استعماري عدواني، وبذلك برأ أمريكا من عدو إلى طرف وسيط يسعى إلى الحل السلمي.

إن مسلك النهج الذي أوصلنا إلى أوسلو قد راكم مجموعة من النتائج المسيئة التي استخدمت لتسويغ الإقدام على اقتراف الكارثة. لقد أفقد هذا المسلك م.ت. ف دعم الجماهير العربية والتفافها حولها، كما قدم مكتسبات مجانية للعدو، وساهم بإدخال العمل الوطني الفلسطيني في أزمة حادة. كما أدخل قطاعات واسعة في دوائر الوهم، فجلست تنتظر دولتها الموعودة على أطباق تقدم في مائدة المفاوضات.

إن انتهاج السلطة الفلسطينية لهذه السياسة البائسة قد أدت إلى انكفاء القارة السمراء عن تأييدها ودعمها نضال الشعب الفلسطيني وإعادة علاقاتها الدبلوماسية مع العدو، بعد أن علقت لفترات مديدة، ولسان حالها يقول: لسنا ملكيين أكثر من ملك. وبالمقابل فإن الصهاينة قاموا بنشاط واسع عمالياً واقتصادياً.

لقد أنشأ الهستدروت المعهد الأفرو – أسيوي للدراسات العمالية والتعاون، هدفه نقل خبرات العمال الصهاينية وتجاربهم في ميادين التعاون والتنظيم النقابي والتأمينات الاجتماعية إلى العاملين من نساء ورجال الدول الإفريقية – الأسيوية في القضايا العمالية.

وهو يتحمل النفقات جميعها بما في ذلك السكن والطعام وهو يتحمل أحياناً تكاليف السفر والعودة.. ويتم التدريس والتدريب في المعهد على أساس دورتين في العام تستغرق كل دورة أربعة أشهر. إلى جانب ذلك يولي المعهد موضوع التنمية الاقتصادية عناية خاصة كما يبذل جهداً خاصاً في الدراسات الإسرائيلية التي تتناول إسرائيل وشعبها وتدعو بين الطلاب لقضاياها، وقد وطد العدو الصهيوني علاقاته الاقتصادية مع الدول الإفريقية والآسيوية، فقد قامت شركة زيم بمشاريع كبيرة خارج الكيان الصهيوني، فقد جرى الاتفاق بين حكومة غانا وشركة زيم على تأسيس شركة ملاحة برأسمال قدره مليون وأربعمئة ألف دولار، كما قامت الشركة المذكورة بتدريب ضباط الأسطول التجاري الغاني في مكاتبها داخل الكيان الصهيوني وعلى بواخرها.

أما بالنسبة لشركة سوليل بونيه، فقد قامت بتأسيس شركة البناء الوطنية، وتعمل هذه الشركة في المشاريع العمرانية الضخمة التابعة للقطاع العام في غانا، كما قدمت الشركة نفسها 10 منح دراسية للغانيين لتدريبهم في ميادين الهندسة المعمارية والهندسة العامة وبعض المهن الأخرى المتعلقة بمشاريع البناء، كما أخذت على عاتقها تدريب عدد كبير من شعب غانا للعمل في مشاريع البناء الضخمة.

كما قدمت الشركة نفسها مشاريع شبيهة بالمشاريع التي أنجزتها في غانا، وذلك في كل من الدول التالية: نيجيريا، شاطئ العاج، سيراليون، وإلى جانب ذلك وقعت الشركة عقداً لشق طريقين في نيجيريا قيمته 25 مليون دولار، كما استخدم العدو 150 فنياً في إفريقيا وأمنت العمل لـ1200 عامل من سكان البلاد.

إن المصالح الاقتصادية بين الدول تلعب دوراً بارزاً للتفاهم والتقارب. لقد استطاع العدو أن يتغلغل في القارة الإفريقية، لأنه نجح في العزف على احتياجاتها التعاونية والاقتصادية، مما مهد له الدرب لأن يسلكه بسهولة.

فماذا قدمنا له نحن العرب من يد المساعدة الفنية والاقتصادية والخدمية حتى نحافظ على صداقة هذه القارة، وعلى ما أنجزناه من دعم وتأييد لقضايانا العربية وفي القلب منها فلسطين؟

العدد 1104 - 24/4/2024