عند محطة الوقود: حكاية الشاب الذي يحب الدفء!

كان يشعر بالبرد أكثر من جميع الأصدقاء؟ كان يتعامل مع البرد وكأنه رجل مؤذٍ، فيقول:

  أنتم لا تعرفونه مثلي… معه دبابيس يغرسها في كل الجسد، وفي القلب أحياناً، فتشعر بموت بطيء يبدأ في أطرافك، ويصل سريعاً إلى وجهك، ثم قلبك ..

 كان يحتج عندما نخبره بأنه يبالغ:

  أنتم لا تحسون بيديه عندما يصفعني على وجهي، فيداه تحرقان الوجه وتشوهان ملامحه.. البرد أقسى من الرصاص.. أقسى من الحريق، تصوروا!

 كان نحيلاً، يداه الواهنتان تحتضن إحداهما الأخرى في أيام البرد الشديد، وتراه وهو ينفخ فيهما، ثم يفركهما جيداً لتدفأا.. ترتسم على وجهه علامات الضعف، لكنه كان قوي الإرادة، واثقاً بنفسه.. وكان جميل الصوت، كثير الدندنة!

 عندما كان يدندن بصوته المنخفض، يصمت من حوله، فيصغون إلى غنائه العذب، ثم يطرونه، ويقولون له:

  جميل.. جميل.. يا ألله ما أحلى صوتك!

 لكنه كان يقول لهم:

  صوتي؟! هه هو صوت كل إنسان عندما يكون صادقاً!

***

ذلك المساء، كان يدندن أغنية جميلة عن الحب والدفء والوطن، عندما سمع بأن المازوت توفر في الكازية.. قال له صديقه على الهاتف:

  لحِّقْ حالك.. الطابور في أوله، فقد وصل صهريج المازوت بأمان هذه المرة، والحمد لله!

كان يود لو أن ثمة وقتاً ليتم الأغنية التي بدأها قبل أن يرن الهاتف، لكن الدفء والمازوت أهم هذه المرة.. اندفع يحمل وعاء من البلاستيك واتجه ليشتري المازوت من الكازية.

 شاهده البعض، وهو يقف بنظام أمام رتل من الأطفال والنساء وبعض الرجال.. كان يقف بجوار وعائه البلاستيكي صابراً هادئاً، ويغني منتظراً الدور الذي لن يأتي!

 ها..

قال له طفل صغير يليه في الدور، فالتفت إليه بفضول، وسأله:

 في شي عمو؟!

رد الطفل:

 قرّب دورك! أنا بعدك!

ابتسم.. شعر بالأمل، فبعد قليل سيحمل حصته من المازوت، ويرجع بما معه إلى البيت.. تصور أن غرفته ستعود إلى الدفء الذي كانت عليه من قبل.. أو ربما تصور أن البرد انهزم هذه المرة على الأقل ريثما ترد الدفعة الثانية من الوقود إلى الكازية!

***

 فجأة سمع صوته.. كان صوته مصحوباً بلهيب كبير.. كان صوته غريباً طغى على إحساس الآخرين بالبرد.. لم يعد يحس بالبرد. كان البرد أخف بكثير من هذا الذي حصل.. دوى الانفجار، وتطاير الرتل الطويل في وهج الحريق المشتعل، وعلى شرفات المنازل القريبة كانت أشلاؤه تحكي حكاية البرد والدفء والإرهاب الأسود!

العدد 1105 - 01/5/2024