«من وحي الشتاء الذي نعيشه»: كيف قاومت جدتي الوحش تلك الليلة المخيفة!

كنا صغاراً، وكان ذلك الشتاء الصعب استثنائياً، وكان ليله دوّامات من الثلج الكثيف تحجب الرؤية وتعيق سير المشاة والمارة، فلبست القرية ثوباً أبيض، لكن الحركة تعطلت فيها، ولم تعد الطرقات الضيقة تصلح للحركة، فقد غطى الثلج كل شيء!

هجع الناس إلى بيوتهم باكراً، و أغلقت الأبواب، كدس الحطب في أركان البيوت الداخلية، وصار للدفء معنى يرتبط بالخوف، فكان عواء الذئاب ونباح الكلاب الشاردة يقضّ مضجع القرية طوال الليل، والريح تعول فتثير الفزع في نفس كل من بقي مستيقظاً. أما نحن  الأطفال الصغار، فكنا نغط في نوم عميق نحلم فيه بصباح جميل دافئ، مشرق الشمس، لنخرج  من البيت فنتراشق بالثلج الذي تكدس في كل مكان.

لم تحك لنا الجدة ماحصل معها تلك الليلة إلا بعد زمن طويل. رغم أن القرية كلها سمعت بما جرى.. حكت ماحصل معها  بعد أن انقشع الشتاء، ودب الدفء في أوصال القرية وسكانها.. قالت:

       كان ذلك تحدياً عليّ أن أواجهه وحدي!

واجَهتِ التحدي فعلاً.. كانت وحيدة في بيت سافر رجاله إلى المدينة وأمضوا ليلتهم هناك، أما نحن فلم يكن يخطر لنا أبداً أن ثمة أحداثاً تجري خلف أحلامنا التي تشغلنا عن الرعب الحاصل خلف الأبواب، وأن بطلة الأحداث هي الجدة القوية الشجاعة التي كانت ساهرة إلى جانبنا، وقد أتحفنا خيالها بأجمل الحكايات لكي ننام في ليالي الشتاء الباردة!

سمعت الجدة حركة دؤوبة خلف باب البيت، كانت قد غفت بجانب الموقد. غطت جسدها بفروة واسعة ثقيلة من الصوف اشتراها لها جدنا قبل أن يموت بسنوات، وكانت تصف تلك الفروة المبطنة بجلود الخراف بأنها تبخ النار أكثر من الموقد!

أيقظتها الحركة، فاستنفرت كل أحاسيسها دفعة واحدة. وكان أمامها خياران اثنان: فإما أن تصيح ونستيقظ نحن على رعب وموت لم نتوقعه، وإما أن تداري هي المسألة بشجاعة وجسارة المرأة القادرة على صنع المستحيل!

تعالت أصوات العواء والنباح، وعند الباب ازدادت الحركة، فدفعها ذلك للاقتراب من الباب والتأكد من إغلاقه. وهناك عرفت الحقيقة، وأيقنت أن وحشاً يعمل على حفر نفق تحت الباب للدخول وافتراس من في البيت!

في البداية، لم تصدق القرية حكاية الجدة، وقالت بعض النسوة إن الجدة عاشت ليلة من الوهم والخوف. لكن الجميع يعرفون صدقها وجرأتها وقوتها.. فماذا فعلت؟ وكيف قاومت ذلك الوحش الذي أقضّ عليها المضجع، وأشعل الخوف والموت عند باب البيت؟!

عادت الجدة بحذر، بحثت عن شيء ما خطر لها، وهي تقاوم الرعب الذي يزداد عند الباب..وجدته. كان ذلك الشيء شوكة كبيرة تستخدم لجمع التبن ووضعه في الأكياس. وجدتها مرمية في ركن الغرفة الداخلية التي تعرف بغرفة المونة، فاطمأنت.. لقد وجدت سلاحاً تقاوم به الوحش.

حملت الجدة الشوكة، ووضعتها في قلب جمر الموقد وراحت تنتظر أن تتوهج بما يكفي لتكون سلاحاً فعالاً.. كان ذلك الوحش يقترب من نهاية الفجوة التي صنعها تحت الباب. وماهي إلا لحظات حتى برزت يداه تنهب الأرض وتنثر التراب إلى الخارج.. نهضت الجدة بقوة وإرادة الزمن الذي علمها أن تواجه الظروف. حملت الشوكة المشتعلة بوهج النار بيدين واثقتين، واقتربت من الباب بإرادة وقوة غريبتين..غرست الشوكة في أصابع الوحش ويديه، فاحترقت وانقطعت إحداهما فراح  يصرخ ويئن برعب وخوف، ثم تراجع منسحباً يجرجر مأساته فوق الثلوج المترامية.

عندما شاهد كل من في القرية اليد المقطوعة للوحش.. هالهم حجمها فراحوا يخمنون من يكون: هل هو الضبع، أم الذئب، أم أنه وحش أسطوري.. فردت الجدة: كائناً من يكون الوحش.. كان يجب أن أقطع يده!

العدد 1105 - 01/5/2024