حكاية رضا أسعد…. الرجل الذي …

حكاية رضا أسعد…. الرجل الذي كثّف شجاعته بالحب!
#العدد823 #بقلم_عمـاد_نداف #جريدة_النور

كثيرون سألوني: لماذا استنفرت عندما علمت بأن صديقك الشاعر رضا أسعد هو الآن في دمشق؟ ولم أقدم لهم جوابي العادي والبديهي: (لأني اشتقت إليه بعد أربعين عاما من الغياب). بل قلتُ لهم: أريد أن أستعيد نكهة روحه وتفكيره وثقافته، لأن هذا النوع من السوريين هو ما نحتاجه الآن!
كان الجواب صدمة لبعض الأشخاص، فأي نوع هو، لكي تعمّمه على وطن نهشته الحرب كسُمانة صغيرة وقعت بين أنياب الذئاب وخرجت منتّفةً، مضرّجة بالدم، ولكنها تنبض بالحياة بقدرة قادر، وتريد أن تعود كما كانت؟!
قلت: هو من النوع السوري نفسه الذي عاش الحرب، من النوع الذي لم يتحزّب إلا لسوريّته، هو نوع جبلته الأرض على محبة الآخرين وأخذَ عنها الطيبة والكرم والشجاعة.. هو السوري نفسه الذي صنع أبجدية، وحرث الحقل، ونسج الدامسكو، وأسس لنمط سوريّ يحب ولا يكره، يسامح ولا يحقد، يتعلم من تجربته ولا يموت.. سوري يحمل هموم العرب ولا ينسى همّه، والعرب مشغولون عنه بالكيد له.. سوري يؤمن أن الله هو الخير، وأن محبته أو الانتماء إليه أو إلى أديانه وطوائفه ليست لقتل الآخرين أو ذبحهم بالسكين، وإنما من أجل الخير فقط!
عندما التقيته، في نهاية الأسبوع الماضي، بعد أربعين سنة من الغياب، كنت على يقين بأني سأتفق معه في الإجابة عن كثير من الأسئلة المتعلقة بحياة السوريين ومأساتهم ومستقبلهم، والتي يفترض أن يطرحها كل منا على الآخر.
وبالفعل ما إن جلسنا حتى حضرت الأسئلة وتواردت الأجوبة، وكنت كلما طرحت رأياً، يصرخ لزوجته ناديا ليسألها عن رأيه المطابق لرأيي، وكلما كان يقول رأياً كنت أردّد كطفل فرح: نعم.. نعم.. هذا ما نحتاجه في سورية!
كنا متفقين تماماً..
أنتم لا تعرفون رضا أسعد!
أنا أعرفه جيداً، فقد كثف شخصيته (الشجاعة)، منذ زمن طويل، بعبارة نادرة، وجعلها عنوانا لديوانه الشعري الخالد، وهي: (لا أخافكم لأني أحبّكم) الذي صدر في دمشق عام 1978، وفي قصائد ذلك الديوان يعجن معاني تلك العبارة السحرية بلغته الشفافة الواضحة رغم صوفيتها أحياناً، فتمتزج فيها الأرض مع الشجر مع الروح مع الجسد، في أروع خلطة لأحاسيس الإنسان الوطني الذي يحب الحياة والناس إلى درجة التوحد، وفي ذلك فلسفة خالدة بأن هذه الحياة خُلقت لنعيش ونسعد بما فيها، لا لنصنع الخداع والاستغلال والظلم والموت والحرب.
صاح رضا أسعد ذات يوم، وفي لحظة خالدة ونادرة، في برّية الطبيعة الساحرة البكر، التي تجَمّعنا فيها بحثا عن السعادة، صاح بنا:
بربّكم.. هذه الأرض أليست رائعة؟!
ثم تحولت إلى قصيدة، فأغنية يمكن أن يدندنها كل من يحب سورية.
هو لا يقصد البساتين، ولا الأحراش، ولا الوديان، ولا السهول، ولا المياه، ولا الحضارات، وإنما يقصد الاندماج الأزلي ما بين كل ذلك وسعادة الإنسان السوري وطموحه، بين المكان الساحر المقدس والإنسان النادر المنتمي إلى مكانه!
يملك رضا أسعد من الحب ما يكفي لوأد الحرب بين القبائل، وتملك الأرض من الحكايات، ما يكفي للرغبة في سماع واحدة منها على الأقل، وفي تلك الحكاية أن الشاعر رضا أسعد صادف مع مجموعة من أصدقائه فلاحاً سورياً يحاول تحطيم صخرة كبيرة تزيد عن حجمه بثلاث مرات، يعمل دون كلل على تفتيتها لتنتعش الأرض وتتسع لزراعة شجرة جديدة.
ويومذاك، كما قال رضا، ذهب مع أصدقائه إلى حيث يجثو الفلاح يقارع الصخرة العنيدة، فتجمعوا حوله يثنون عليه ويبكون معجبين بإصراره، فالبكاء في هذه اللحظة أوضح تعبير عن الدهشة..
بربّكم.. ألا نحتاج اليوم إلى هذه الروح للإنسان السوري بعد حرب السنوات السبع ذات الطعم المر؟ ألا نحتاج إلى سوريٍّ يحطم الصخرة بعناد ليزرع شجرة؟ ألا نحتاج إلى من يطوقه بالحب ويثني عليه ويبكي؟!

العدد 1105 - 01/5/2024