مــرض اسمه (الطاعة) …

مــرض اسمه (الطاعة)
#العدد825 #بقلم_يونس_الصالح #جريدة_النور

لو تساءل المرء عن الصفة الأخلاقية التي يراد من إنساننا أن يتحلى بها في كل مراحل عمره، وفي جميع الميادين التي يتعامل معها خلال حياته الخاصة والعامة، لكانت هذه الصفة، على الأرجح، هي الطاعة. إن الطاعة في ثقافتنا العربية فضيلة الفضائل، وهي الضمان الأكبر للتماسك والاستقرار في المجتمع، وهي الدعامة الأساسية لاستتباب الهدوء والسلام بين الأفراد، وبين كل المؤسسات التي ينتمي إليها الإنسان العربي خلال مراحل حياته المختلفة. والطاعة هي الفضيلة الصامدة التي كان يعتز بها التراث العربي في أقدم عصوره، ومازالت في نظر كتابنا وموجهينا ومعلمينا المعاصرين وساماً على كل من يتحلى به.
إنها في كلمة واحدة الفضيلة التي تبدو في نظر الثقافة العربية صالحة لكل زمان ومكان.
والقضية التي أود أن أدافع عنها في هذه المقالة تسير في الطريق المضاد لهذا التراث الأخلاقي والاجتماعي الراسخ، المتأصل، القديم العهد.
إنني أعتقد أنه إذا كانت هناك أسباب معنوية لتخلفنا وتراجعنا واستسلامنا أمام التحديات، فإن الطاعة تأتي على رأس هذه الأسباب، وتتبلور فيها سائر عيوبنا ونقائصنا.
إن تنشئة الإنسان العربي ترتكز في مراحلها المختلفة على تثبيت هذه القيمة الخلقية والاجتماعية وغرسها بطريقة راسخة حتى تصبح في النهاية جزءاً لا يتجزأ من تركيبه المعنوي. فمنذ سنوات العمر الأولى تعمل الأسرة على أن تكون العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة (طاعة)، وتقدم (طاعة الوالدين) على أنها قمة الفضائل العائلية، بل إن الأبناء حين يكبرون ينسبون نجاحهم إلى (دعاء الوالدين) الذي حلّ بركات عليهم، لأنهم كانوا أبناء (مطيعين). ويعمل تراث شعبي كامل على ترسيخ فكرة الطاقة بين الأبناء والآباء، وكأنها هي النموذج الأعلى للسلوك الأسري المثالي. وحين يتكرر هذا النموذج عبر عشرات الأجيال، تكون النتيجة الطبيعية هي جمود المجتمع بأكمله وانعدام التجديد فيه، وتفاخره بشعار رجعي متحجر هو (وينشأ ناشئ الفتيان منا.. على ما كان عوّده أبوه)!
أما العلاقة بين الزوجين فإن أساسها الذي تفرضه التقاليد وتحاصر به المرأة من كل الجوانب، هو طاعة المرأة لزوجها. إن الزوج هو الآمر، وهو الممسك بالدفة، أما الزوجة فإن سيلاً عارماً من الأدبيات والتراث الشعبي والنصائح الموروثة يؤكد أن فضيلتها الكبرى تكمن في أنها زوجة (مطيعة)، فإذا خالفت أوامر (الزوج القائد) أو حاولت الإفلات من قبضته فهناك بيت الطاعة دائماً، أعني سجن التمرد.
وحين ينتقل الطفل العربي من خلية المجتمع الصغرى، أعني الأسرة، ويبدأ في الاندماج في مجالات أوسع وأكبر، يجد نظاماً تعليمياً يقوم، من أوله إلى آخره، على مفهوم (الطاعة)، فأسلوب التعليم لا يسمح بالمناقشة أو النقد أو التعبير عن الشخصية المستقلة، وإنما يفترض ضمناً أن التلميذ كائن مطيع، جاء ليستمع باحترام وإذعان، ولا يراد منه إلا أن يردد ما تلقاه، ويكرر ما حفظه عن ظهر قلب. وعلى الرغم من تلك التلال الهائلة من البحوث والتقارير والتوصيات، التي تصدر عن أساتذة التربية واختصاصييها في كل عام، والتي تدعو إلى نظام في التربية ينمي الملكات الابتكارية والإبداعية، ويؤكد الشخصية الاستقلالية والقدرة على مواجهة المواقف غير المألوفة… إلخ، فمازال التعليم عندنا يحتل فيه (الكتاب المقرر) مكانة قدسية، ولا يقوم المعلم فيه إلا بدور الكاهن الذي يحض سامعيه على الالتزام بكل حرف في (الكتاب). وتعمل المؤسسة التعليمية ذاتها على توطين فيروس (الطاعة) في خلايا الأدمغة الفتية الغضة، فإذا بمعاييرها لتقييم أداء التلاميذ ترتكز كلها على الترديد الحرفي للمعلومات المحفوظة، وتعطي أعلى درجات التفوق (للتلاميذ المجتهدين)، وهي في قاموسنا التعليمي لا تعني إلا (الحافظين)، وتعاقب كل من يبدي رأياً ناقداً أو مخالفاً. والأدهى من ذلك أن أساتذة التربية واختصاصييها الذين يرون كارثة التعليم المرتكز على (الطاعة) بأم أعينهم في كل لحظة، لا يتوقفون عن التحليق في عالمهم الخيالي، وإصدار الأبحاث والنشرات الداعية إلى تعليم إبداعي مبتكر، ولا يحاول أحد منهم أن يقترب من السؤال الأساسي والجوهري: ما هي الأسباب الحقيقية لهذا (الفصام) بين كتاباتنا وواقع التعليم؟ وكيف نقيم جسوراً بين ما ندعو إليه على الورق، وما يحدث في قاعدة الدرس؟ وكيف نخطو ولو خطوة واحدة في سبيل عبور الهوة بين التعليم الإبداعي الذي نحلم به والتعليم المذهن والمطيع الذي أنشب أظافره في جميع مؤسساتنا التربوية بدءاً من الروضة حتى الدراسات العليا في الجامعة؟
وحين ينتقل الشاب العربي إلى مرحلة الحياة العملية، يجد علاقات العمل مبنية في الأساس على مبدأ الطاعة، فعلاقته بالمسؤول هي علاقة (رئيس بمرؤوس)، وهو في ذاته تعبير يحمل دلالات بليغة. فكلمة (الرئيس) مشتقة من (الرأس)، أي أن المسؤول في أي موقع للعمل هو رأس العاملين فيه، وهو أعلاهم مقاماً، كما أنه عقلهم المفكر. وأهم الصفات التي تعبر عن تقدير المجتمع للموظف العربي، والتي تؤهله للارتقاء في منصبه، هي أن يكون (موظفاً مطيعاً) يستجيب للرؤساء (أي يحني رأسه الصغير أمام الرؤوس الكبيرة) ولا يناقشهم. وأسوأ أنواع العاملين، التي يتولى فيها المديرون تقويم عمل مرؤوسيهم، هو أن يكون ناقداً، متمرداً، (غير مطيع)، ولكن أهم الميادين التي ينخرط فيها الإنسان العربي بعد أن يبلغ مرحلة النضج، هو ميدان السياسة والحكم، وهنا يصبح مبدأ الطاعة في بلدان العرب هو السائد والمسيطر بلا منازع.
فالحكام في البلدان العربية لا تريد من المواطن إلا أن يكون (مطيعاً) لأوامرهم، وأداة (طيعة) في أيديهم، وقد تتخذ هذه الدعوة إلى الطاعة شكلاً سافراً، فتتولى أجهزة الإعلام المنافقة تصوير الحاكم بأنه مصدر الحكمة ومنبع القرار السديد، ومن ثم فإن كل ما على المواطنين هو أن يوكلوا أمورهم إليه ويعتمدوا عليه، فهو الذي يفكر بالنيابة عنهم، وهو الذي يعرف مصلحتهم خيراً مما يعرفون، وهو الذي يعنيهم من مشقة اتخاذ أي قرار، وفي مقابل ذلك إن أي نقد أو اعتراض أو تساؤل يوصف بأنه (عصيان) هو إثم لا يغتفر. فكبيرة الكبائر هي (شق عصا الطاعة) (لاحظ الارتباط في التعبير اللغوي التراثي، بين الطاعة والعصا)! وجريمة الجرائم، ولكن دعوة الحكام إلى الطاعة قد تتخذ طابعاً غير مباشر، حين يصبح الشعار الذي يسود المجتمع هو (الاتحاد والنظام) أو حين يطلب إلى الشعب الاستغناء عن ديمقراطية النقد والمعارضة، والاكتفاء بـ(ديمقراطية الموافقة)، أو حين تخنق كل صيحة احتجاج بحجة أنه (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، على أن أشهر هذه المحاولات المستترة لتأكيد مبدأ الأمر والطاعة في علاقة الحاكم والمحكوم هي تحويل هذه العلاقة إلى (عائلة واحدة) أو ما يسمى في مصطلح العلوم الاجتماعية باسم النظام الأبوي أو البطريركي.. ذلك لأن السمة المميزة لعلاقة رب الأسرة بأفرادها هي أن له عليهم حق الطاعة، وهكذا فإن الحاكم حين يصبح (كبير العائلة) أو (رب الأسرة الواحدة)، يطالب لنفسه بحقوق الأب، الذي لا يخضع لمحاسبة أبنائه، والذي تطاع أوامره، مهما كانت قسوتها، برضاً واختيار، والذي ينبغ أن تقابل صرامته بالحب، لأنها تستهدف دائماً صالح (العائلة)، والأهم من ذلك أن (الأب) أو (الكبير) هو الذي جمع الخبرة والمعرفة والرأي السديد، وكل من عداه أقل منه قدرة، ومن ثم ينبغي أن يترك القرار له وحده، وعلى الآخرين أن يسعدوا ببقائهم في الظل. لو بدا أن في قراراته ظلماً أو عدواناً، فإن ذلك يرجع إلى جهلهم بمصالحهم الحقيقية، التي يعرفها (الرجل الكبير) خيراً من أي فرد من أفراد (الأسرة).
وهكذا ففي كل مجال من مجالات الحياة يجد الإنسان العربي مبدأ الطاعة مفروضاً عليه، يدفعه إلى المسايرة والخضوع والاستسلام، ويقضي على كل إمكانيات التفرد والتمرد في شخصيته. إن الطاعة تحاصر المواطن العربي من كل جانب، وتلازمه في جميع مراحل الحياة، وتفرض نفسها حتى على من يدعون (الثورية) في مجتمعاتنا.
على أنك حين تطيع، لا تكون ذاتك، بل تمحو فرديتك وتستسلم لغيرك، وأكاد أقول إن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن يكونوا (مطيعين)، فالمصلحون الذين غيّروا مجرى التاريخ لم يطيعوا ما تمليه عليهم أوضاع مجتمعاتهم، وأصحاب الكشوف العلمية الكبرى لم يطيعوا الآراء السائدة عن العلم في عصورهم، والفنانون العظام لم يطيعوا القواعد التقليدية التي كان يسير عليها أسلافهم، وهكذا فإن كل شيء عظيم أنجزته البشرية كان مقترناً بقدر ما من التمرد، ومن الخروج على مبدأ الطاعة، وأكاد أقول إن الإنسان لم يكتسب مكانته في الكون إلا لأنه رفض أن (يطيع) الطبيعة ويستسلم، كما تفعل سائر الكائنات الحية، لقواها الطاغية، وهكذا فإن الإنسان الذي يعرف معنى وجوده هو ذلك الذي يهتف في اللحظات الحاسمة من حياته: (أنا متمرد، إذاً أنا موجود).

العدد 1101 - 27/3/2024