قراءة تاريخية جدلية …

قراءة تاريخية جدلية للتشكيل السوري في ظل الحرب
#العدد823 #بقلم_بولس_سركو #جريدة_النور

يعتبر نقاد الفن التشكيلي السوري مطلع القرن العشرين بداية انطلاقة هذا الفن، لكن أحداً ما لم يجرؤ على البحث في الأسباب الحقيقية لولادته المتأخرة، لأن تلك الأسباب طالما بقيت خطوط حمراء يكشف خرقها الاحتواء الديني الذي زج بالفن داخل جدران المعابد مكبلاً بالمحرمات والإيديولوجيا الماورائية، مجرداً الحياة الاجتماعية منه لقرون طويلة من الزمن، بدلاً من ذلك يحصر الخطاب السائد اليوم اضطهاد الفن بالسياسة، ويؤدي الى نتيجة واحدة هي أن حرية الفن هي حريته من ضغط السياسة وهيمنتها، وهي هيمنة وإن كانت مرفوضة في حال وجودها من حيث المبدأ شأنها شأن أي شكل آخر من الهيمنة، لكن الهدف من هذا الحصر هو تنسيك الفنان وإبعاده عن دائرة التأثير في القضايا الاجتماعية والوطنية، وينعكس ذلك بوضوح في موقف الفن التشكيلي السوري من الحرب على سورية.
تبدأ المرحلة الأولى من مراحل تطور الفن التشكيلي السوري المعاصر، حسب كتاب الناقد طاهر البني (ذاكرة الفن التشكيلي السوري) من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه، استلهم فيها الفنانون المذاهب الفنية الغربية من الكلاسيكية إلى الانطباعية مروراً بالرومانسية والواقعية. أما المرحلة الثانية المحددة بمطلع النصف الثاني إلى مطلع السبعينات، فتميل إلى تحرر الفنانين السوريين من أسر الاتجاهات الغربية التقليدية السابقة- حسب رؤية الكاتب- والتطلع إلى صيغ مستحدثة كالتعبيرية والتكعيبية والسريالية والتجريدية مع بداية استلهام الصيغ التراثية. المرحلة الثالثة الخاصة بالربع الأخير من القرن العشرين ممتدة حتى الآن وتتميز بأنها مرحلة نضج للتجارب السابقة ونشوء اتجاهات تمتلك خصوصيتها و لغتها وأدواتها.
لا شك بدقة هذا التقسيم التاريخي وبالجهد الكبير للكاتب في توثيق الحركة التشكيلية، لكن الكتاب لم يخرق الخطوط الحمراء واستمر في التغطية على الاحتواء الديني للفن في صور بهية من الربط بين فن وتقنيات اللوحة التصويرية المعاصرة التي أنتجها التثاقف مع الغرب، وأصول تراثية محلية عجزت عن خلق حالة فنية في صلب ثقافة المجتمع السوري، من خلال استعراض نمازج تشكيلية من العصور المتعاقبة وصولاً إلى الفن الأيقوني ثم الرقش الإسلامي والخط والرسم الشعبي وجداريات الحمّامات الملكية الأموية، إلى المرحلة الأولى والمراحل التالية من فن اللوحة المعاصرة وكأنه تاريخ متسلسل متواصل، عريق ومتجذر، ولو كان كذلك لما تحدثنا عن بداية من مطلع القرن العشرين، ولكان تطور الفن التشكيلي السوري هو الذي أنتج مدارس الفن الحديث ونقلها إلى العالم وليس العكس.
لا بد أولاً من التركيز على مسألتين هنا، الأولى: أن الهدف من البحث ليس استفزاز أحد ولا المس بالقيم الدينية، إنما التزام مبدأ السيادة الثقافية السورية ونبذ التبعية الثقافية والإسهام ببناء علاقة تثاقف نقدية ندية مع الآخر وفقاً لحاجات ومصالح ومتطلبات الشخصية الفنية السورية، والثانية يجب الأخذ بعين الاعتبار أن القطيعة التاريخية الطويلة بين الفن التشكيلي والحياة الاجتماعية السورية كانت بسبب الاحتواء الديني للفن الذي لم يتعرض للضغط في تاريخه كما تعرض له من قبل الإيديولوجية الدينية، على عكس الخطاب السائد، فالسياسة في بلدنا لم تلعب أي دور معيق، والفن التشكيلي السوري المعاصر نشأ في ظل المتغيرات السياسية التي كانت ترمي إلى تحرير المجتمع من الجهل والتخلف، وترعرع في ظل الفكر السياسي التحرري النهضوي والتقدمي، إذاً ما هي مصلحة الفن والنقد السوري في تبني النظرة الغربية المسيسة للفن في واقع تاريخي مختلف؟
على هذا الأساس فإن شرط التثاقف كضرورة من أهم ضرورات التطور هو السيادة الثقافية، وللإنصاف والعدل يمكن استثناء ضحايا القطيعة الفنية التاريخية من الرواد فناني المرحلة الأولى اللذين تعرض الكثير منهم لشبهة النسخ وهم في طور التلمذة، لكونهم أبطال كسر تلك القطيعة بشعور نهضوي عارم ومؤسسي قيم التثاقف وسط بيئة اجتماعية متصحرة فنياً، ولو لم تكن هذه القيم بمثل الوضوح الذي تتسم به اليوم.
أما فنانو المرحلة الثانية فلم تتضح لديهم صورة السيادة الثقافية بالشكل الذي نعرفه اليوم، ويدل على ذلك التناقض بين نظرياتهم الجمالية التي هي استنساخ عن النظريات الغربية المسيسة، والموضوعات الجمالية التي لم يتخلَّ كثيرون منهم عن رسالة الفن الإنسانية والاجتماعية فيها. لقد كان نتاج الكثير من فناني تلك المرحلة الفني تعبيراً عفوياً وحراً ووجدانياً عن تثاقف غير ناضج السيادة، فهو مزيج من الموضوعات ذات البعد الوطني والاجتماعي الطبقي المطروح بأساليب المدارس الفنية الغربية، مقترناً بمثل جمالي مختلف رافض لرسالة الفن المذكورة تعبر عنه تصريحات وحوارات هؤلاء الفنانين ومحاضراتهم.
إن القول بأن فناني المرحلة الثانية تحرروا من أسر الاتجاهات الغربية التقليدية غير دقيق بما فيه الكفاية للدلالة على المعنى الفعلي العام لمفهوم التحرر، فقد نقلوا الخطاب النقدي الغربي بلا مساءلة ما إذا كان متوافقاً مع ميلهم الوطني والطبقي الفطري؟
حتى تعشيق المادة التراثية كان نوعاً من التلبية المجانية غير الواعية لتوجهات غربية مدعومة مالياً وإعلامياً سادت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كجزء من المعركة ضد علمانية الأنوار عموماً والشيوعية خصوصاً حين وظفت الثقافة الغربية برمتها تقريباً ومنها الفن التشكيلي، للترويج للقيم الدينية والتعبئة العالمية للأطر الدينية وبعث التراث القديم ونشر مبدأ الفن للفن، بهدف خلق عبثية مطلقة والفصل بين الفنان ورسالته الإنسانية والوطنية والاجتماعية، (بالمناسبة فضح الفنان التشكيلي السوري العالمي الراحل عمرحمدي – مالفا- في حواراته، وأهمها ما نشره ملحق الثورة الثقافي بعض تفاصيل أثر تروستات المال على توجهات التشكيل في أوربا بالأسماء).
النتائج ظهرت عند فناني المرحلة الثالثة، فإذا كان أساتذتهم قد حافظوا على شكل منقوص من السيادة الثقافية، فقد تلاشى هذا الشكل عند فناني هذه المرحلة مع تفشي أعراض الوظيفة السياسية للفن في اللاوعي بشكل متطرف، فرسالة الفن أصبحت بمثابة عار عندهم وهو السر في سلبية الفن التشكيلي في ظل الحرب، فالفنانون الذين نضجت تجاربهم في هذه المرحلة وسط أجواء تلقينية، على قواعد التثاقف المنقوص باتوا يخشون الاتهام بـ(عار) الالتزام بالقضايا الوطنية والاجتماعية في نتاجهم التشكيلي، مع أن أغلبهم يتملكهم حس وطني وإنساني عالٍ منفصل عن ذلك النتاج، وهو ليس التناقض الوحيد في روح المرحلة، إنما أيضاً في عدم المساءلة ما إذا كان على الفنان السوري الحر المستقل أن يزج نتاجه في الوظيفة السياسية الغربية للفن؟ وما إذا كان التنظير الغربي للفن ثابت ثبوت القيم والمسلمات الدينية؟
إذا كانت المعابد قد حفظت لنا بقايا تراث تشكيلي هزيل مقموع معلّب، فليست فضيلة مقدسة تستدعي تمجيد الماضي واستحضاره والهوس في إضفاء أشكال مبتكرة معاصرة عليه، لتحل محل التعبير عن مشاعر متأججة نعيشها يوماً بيوم طوال ثماني سنوات من الحرب القاسية التي شهدتها بلادنا، وهي من أقذر أشكال الحروب، عاش فيها الناس ما لم يرد في الأدب الروائي ولا في أفلام الرعب من حالات العنف والسادية والظلم والبؤس والقتل والحرمان والتشرد والفراق والجوع والموت، قصص صادمة يومية تهز الوجدان والعواطف الإنسانية وتدفع الثقافة رغما عنها للانتفاض والصراخ والبحث عن إنسانية مفقودة، ومع ذلك لم نجد سوى إشارات خافتة نادرة تعبر عن الوجع السوري في الفن التشكيلي الذي عجز عموماً عن عكس الواقع التاريخي.
من المدهش أن تحلّ محل كل ذلك الوجع الحاضر هواجس استحضار الماضي بهزالته ومومياءاته المعلبة، وأن لا يحذّر النقد التشكيلي السوري من الخطر الوجودي على الفن التشكيلي نتيجة تدويره داخل حلقة مفرغة.

العدد 1105 - 01/5/2024