علمانية ببساطة

 نفرح حين نقرأ عن المحبة الإلهية المتصلة عمودياً ومباشرة مع الله، لأن هذه هي أفكار الحرية الدينية المنطلقة من إسارها، التي نتلهف لانتشارها بيننا، خصوصاً نحن العرب المشحونين طائفياً بشكل أكبر من بقية القوميات، ومع دخولنا القرن الحادي والعشرين وكلنا أمل في عصر العلم والتكنولوجيا وازدهار الحضارة بكل مكوناتها ومجالاتها، وبأن يخف الصراع تدريجياً ثم ينعدم، إلاّ أننا على العكس نُصدم باحتدامه! كأننا دخلنا في عصور أقسى من تلك التي مرّت سابقاً على بلادنا، فلو بحثنا في التاريخ لن نجد ما يشبهها، لأن رجال الدين ابتعدوا عن تلك الروح المتعالية عن الصغائر، وعن كل استئثار، واشتغلوا بأمور الحياة المادية والبحث عن الزعامة، لتسير جماعة خلفهم تصفق لهم عند كل إعلان يثبت أن منهج ملّتهم أو دينهم هو الأصح، فيطلقون على الملأ بديهيات التفسيرات للآيات البيّنات، ولو بحثنا جيداً لاستنتجنا أن البداهة في الأديان مختلفة بالطبع عنها في بقية العلوم المادية أو حتى الإنسانية، فحين تقف أمام من يحاججك أو يجادلك بفكرة ذات أصل ديني، فهو يسطر البداهة في كل التشريعات دون مراعاة للزمان والمكان، مرفقاً مع تفسيره الشخصي البديهي أيضاً برأيه! وهكذا نتشعّب مع المتشعبين من كل دين وملة، ونعود ثانية إلى التفسيرات الفردية ومن ثم إلى الصراع نفسه، نجد أن الأشد وطأة هم مطلقو الفتاوى، هؤلاء الذين أتلفوا ذاكرة الشعب وقناعاته، وألغوا فردية الرأي بإدلائهم بين كل يوم فتوى جديدة يشيب لها شعر الولدان، وتقلب الشائب على ظهره وتفقع مرارته من شدة الضحك على شر البلية مكفّنين بغبائهم.

أعود إلينا، نحن الشعب البسيط حين نقرأ بفرح لكاتب ما (يمتلك صفة دينية) عن العلاقة العمودية مع إله الأديان جميعها، خصوصاً وهو يداني العلمانية بأفكاره، لكننا بعد حديث واقعي مطوّل، نفاجأ بل نصطدم بعودته بنا إلى النقطة نفسها التي بدأ وانطلق منها الخلاف، حين يأتينا بآيات تحتمل الكثير من التأويلات والتفاسير وبالتالي الاختلاف، وهكذا سنبقى نلف وندور ضمن حلقات مفرغة إلاّ مما تحجر فيها من أنانية، وسنبقى كالعقارب نلف بأذيالنا حول ذواتنا نلسعها لنصرعها في النهاية.

ليس في الأديان ذهنية معينة بحد ذاتها هي التي تكرس القطيعة، ولو أردنا البحث من بداية التاريخ حتى نهايته لما وجدناها، إنما يكرسها فقط هو الاختلاف الطبيعي والتاريخي لهذه الذهنيات، ونرجسيتها في احتكارها للحقيقة بتفنيدها لحقيقة الآخر كي تسود حقيقتها، ونسكن مرة أخرى في قلب الصراع لاستحالة قبول أحدهم الانغماس كلياً في ذهنية الآخر (تكفير وتحريم وتحليل) ومن ثم إعدام ذهنيته.

لذا، وكما في بعض المسائل الرياضية التي كنا نكتب في نهايتها مستحيلة الحل، يبدو أن اليأس قد تملّكنا من اجتراح الحلول السحرية للانتهاء من تلك الإشكالية أو المشكلة العويصة التي كتب في كل زمن وعلى كامل صفحتها، مع إشارة الضرب باللون الأحمر: مستحيلة الحل.

وكي ننتهي من الصراع ونجترح للمسألة حلاً ودواء لا ينحاز أو ينزاح نحو جماعة دون أخرى، دواء موجود في الأصل وليس مخترعاً، لكننا نستغفل عنه عمداً وقصداً لسوء فهمنا له، دواء نما الشعر على ألسنة البعض وهم يهمسون به سراً ويصرخون علناً، وكي لا يبقى الحل مستحيلاً في البلدان العربية والإسلامية التي كأنما وجد التشدد لها، بل تغذى جيداً بسبب تكريس الأمية الثقافية، وسيادة الأرضية القحط فيها، فما علينا سوى الأخذ فوراً بالعلمانية، هذا المصطلح الإنساني الذي يضم بين حناياه جوهر الأديان جميعها، لأنه فقط هو الذي يؤلف بين القلوب، فيجعلهم قلباً واحداً حانياً، ولنترك السلطة تقف أمام شعوبها عارية من غطاء الدين، لا يستر عورتها سوى عدلها، وكفاءتها، وقدرتها على تطوير بلدانها وشفافيتها أمام مواطنيها، بدفاعها عن حقوقهم وتأمين الأمان والسلام، بذلك تسمو بمهامها وأدواتها، فتبتعد عن أن تصبح مأوى للانتهازيين واللصوص وشذاذ الآفاق.

نفاجأ أيضاً حتى من ذلك الذي يدعو إلى العلمانية بإصراره على أن الإسلام قد أرسى منهجاً علمانياً واضحاً، ولن ننكر ذلك من جوانب ليست مطلقة، وفي الحقيقة نحن نرجو ضمنياً تمكّنه من ذلك، لكن نعتقد أيضاً أنها من المسائل المستحيلة.

نقف مرة أخرى لنسأله: بأي الطرق ستتمكن من إقناع الذهنيات المختلفة والمتعددة الينابيع، الساقطة كالشلالات فوق رؤوس جماعاتها، بوجهة نظرك أو بتفاسيرك التي تؤكد علمانية الإسلام؟ لذلك يا سيدي على من يريد التحدث بالعلمانية الابتعاد عن جميع الأديان واستخلاص المبادئ الإنسانية العامة المنطلقة منها، بذلك فقط نحن نستطيع التوفيق بين البشر أجمعين، فهل نحن نعيش لحلم بعيد المنال؟ أم نأخذ من الغرب عبرة، ونتخطى بسرعة البرق الزمن الذي مرّ به، لأنه لم ينهض من عصور الانحطاط إلا حين فصل تماماً بين سلطتي الدين والدولة واستغل العلم لصالح الإنسانية جمعاء.

العدد 1104 - 24/4/2024