الثقافة الوطنية من الحاجة إلى الضرورة

 كثيراً ما يدور الحديث عن أهمية الثقافة ودورها في بناء الإنسان، متناسين أن الإنسان في نهاية المطاف هو ثقافته، فكلّنا صفحات بيضاء تكتبها الثقافة بالتفاعل مع البيولوجيا بما تقدمه من موروثات (جينات) واستعدادات، تنمو وتتطور بفعل الثقافة التي يتلقاها الإنسان منذ طفولته المبكرة مع حليب أمه، ثم في الأسرة، فالمدرسة، فالحياة الواسعة الغنية بثقافات متنوعة ومختلفة تساهم في بناء الشخصية الإنسانية.

بعضهم يقول: قل لي ما هي ثقافتك، أقل لك من أنت!

 في هذا القول قدر كبير من الصحة والصواب، إن لم نقل فيه عين الحقيقة، فالإنسان مكون اجتماعي ثقافي يتشكل وفق الظروف المحيطة به، من عمران ومدنية وحضارة.

الثقافة بمعناها الواسع وبفضاءاتها الدلالية، لا تتأتى من الكتب والمطالعة فقط، وإنما من المخالطة والتواصل الاجتماعي، فالخبرة الحياتية المكتسبة مكون أساسي للبنية الثقافية الإنسانية، أكانت الثقافة متحصّل عليها عن الطريق المباشر (التجربة الشخصية)، أو غير المباشر بالاطلاع على تجارب الآخرين وتمثلها، والاستفادة منها في عملية تراكمية تفاعلية تشكّل الذات الإنسانية. بناء على ذلك تصبح الثقافة، بكل معانيها ومكوناتها، حاجة ضرورية، كالماء والهواء، وتوفير مصادرها هو واجب على القائمين عليها، والمسؤولين عن حقول الثقافة والتعليم والإعلام ورجال الدين.

عن أي ثقافة يمكن الحديث ونحن ندرك أن الثقافات تختلط وتتمازج وتتنوع بل وتتناقض في كثير من الأحيان، وهنا تقع مهمة كبرى على المعنيين بتسيير الأمور الثقافية، تتعدى نشر الثقافات، إلى فلترة الضارّ منها وفرزه وطرحه جانباً، وتأكيد الإيجابي فيها وتعميمه.

لكن المشكلة الخلافية تقع في عملية الفرز والتحديد، فلكلٍّ هواه ومصالحه ورؤيته للضارّ وللمفيد، لكن هذا الخلاف ينبغي أن يُحَلَّ وفق الضرورات والاستحقاقات التي تمليها الظروف والوقائع، فلكلّ مرحلة تاريخية ثقافاتها المهيمنة، ولكل فترة زمنية ما تستدعيه من ثقافة محددة، على الناس أن يتسلحوا بها لمواجهة الأخطار المحدقة بهم وطناً ومواطنين.

وهنا يبرز دور الثقافة الوطنية بكل مكوناتها التي تتجوهر في العلاقة بالوطن أرضاً وتاريخاً وإنساناً ولغة ودولة.. فكل ما يخدم المحافظة على الدولة بمكوناتها الثلاثة: وحدة الأرض، تماسك النسيج الاجتماعي، متانة المؤسسات العامة، وكل ما يخدم المواطن (المواطنة) في علاقاتها التشاركية مع مفهوم الدولة، يصب في بحر الثقافة الوطنية، متنوعة المصادر متعددة الموارد.

ما نحتاج إليه اليوم هو تعزيز العقلانية في تناول القضايا المطروحة على ساحتنا السورية والإقليمية والدولية في تشابك العلاقة بين هذه المكونات، ثم الحكمة وهي من مفرزات العقلانية في التفكير، والتوازن في إطلاق الأحكام، والابتعاد قدر الإمكان عن الذاتية المفرطة في مبالغاتها.

الثقافة الوطنية هي الحصن المنيع الذي يقوي ويعضد الوحدة الوطنية التي لولا تماسكها وتلاحم مكوناتها، لما استطاعت قواتنا المسلحة وقيادتنا السياسية تحقيق ما أنجز على الجبهة العسكرية.

والمطلوب الآن أن نسير في المواجهة الفكرية الثقافية، بحزم أقوى وإصرار أعمق للعمل على تجفيف منابع الفكر الإرهابي الظلامي التكفيري، بإطلاق الفكر النقدي المعتمد على الموضوعية والإنصاف، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بإلغاء الهوامش والمعيقات وفتح الآفاق واسعة أمام حرية الرأي، ما دام ما يصدر عنه يساهم في خدمة المواجهة الوطنية التي تستدعي اليوم أكثر من أي وقت مضى وحدة القوى الوطنية بكل مكوناتها واختلاف مرجعياتها ولونياتها، واستنهاض الجماهير الشعبية وزجّها في المواجهة، والاهتمام بقضايانا العادلة والمشروعة، فالمعركة اليوم مزدوجة، مواجهة الإرهاب والفكر الظلامي من جهة، ومعركة تحرر وطني، فأرضنا السورية الغالية محتلة من أكثر من قوة غاشمة، علينا جميعاً أن نعمل من أجل تحريرها كاملة، وإلا لا يمكن الحديث لا عن تقدم ولا عن ازدهار ولا عن دولة عميقة، ولا عن ديمقراطية وعدالة اجتماعية وسيادة للقانون، تحرير (التراب السوري) ووحدته هما الهدف الأعلى بالتوازي مع مكافحة الإرهاب والظلامية.

 

العدد 1104 - 24/4/2024