الحقيقة ولغة الخطاب

 لا يوجد فكرة أو رأي إلا ويمكن معارضته أو الرد عليه، وهذا حق مشروع لكل صاحب موقف وحامل فكرة.

ولكن المشكلة تكمن في شكل الخطاب وطريقة الرد، التي تنوس بين العقلانية_ وهي مطلب في كل المنافسات_ والانفعالية والهيجان الذي لا مبرر له إلا إذا فقد الإنسان القدرة على السيطرة على أعصابه، وانعدمت لديه الموضوعية في إطلاق الأحكام، فيلجأ عندئذٍ إلى إطلاق الشتائم، ويستخدم المفردات التي لا تدل على حالة متزنة وهادئة. وحالة الاتزان والهدوء هي الحد الأدنى الذي تتطلبه المواجهة بين الأفكار حتى ولو كانت على درجة كبيرة من التباين.

الفكرة بالفكرة، والقلم بالقلم، والنزق بالتروّي والهدوء، التجنّي وإطلاق الأحكام الجائرة، إذا لم يواجه بتوازن واتزان، يفقدها كثيراً من مشروعيتها، وبذلك ينجح الخصم في جرّ خصمه إلى ساحته الانفعالية الاتهامية الظالمة.

إذا أردت أن تكون مقنعاً فلا يكفي أن تمتلك الحقيقة، وهو أساس المواجهة، لا بدّ لك من استخدام الأساليب والمفردات والجمل والصياغة التي تدعم الحق الذي تدافع عنه، وإلا انقلبت الحقائق إلى نقائضها، وافتقدت القدرة على الإقناع، وهو الغاية من الكتابة ونشرها.

توجيه الاتهامات أمر سهل وميسور للجميع، فما أسهل أن نوجِّه حزمة من التهم إلى هذا الشخص أو ذاك، هذه الجهة أو تلك، لكن المشكلة في المصداقية، ليس في صدق التهم، وإنما أيضاً في سلوك من يتهم ومواقفه، هل هو بريء من تلك التي يوجهها لخصومه حتى ولو كانوا على ضلال مبين.

أساليب المواجهة ولغة الخطاب مكسب حضاري ثقافي إنساني ووطني، والحرص على احترام الآراء المتباينة أو المتعارضة يقلل من احتمال اشتداد العدوات بين المختلفين، فبمقدار ما نملك من هدوء، نستطيع أن نجنّب خصومنا التمادي في تصوراتهم الخاطئة.

مهمة الأعقل أن يتسع صدره لكل الأفكار ووجهات النظر المخالفة له، وواجبه نحو الاختلاف يتعاظم بحجم المسؤولية التي تقع على كاهله، فأخطاء الكبار كبيرة، وهفواتهم تتعدى حدود مسؤولياتهم الشخصية لتصبح قضية عامة تترك آثارها على مجمل العلاقات الثقافية والفكرية في مؤسساتهم، وفي علاقة تلك المؤسسة بالمؤسسات الأخرى.

لا يمكن الحديث عن ثقافة وإنجازات معرفية خارج المؤسسات، صحيح أن الثقافة إنتاج فردي، يبدعه المثقفون، إلا أنهم بتكوينهم العام نتاج اجتماعي، إذا لم يؤطر في مؤسسات ترعاهم، وتساهم في تشجيعهم، والعمل على مساعدتهم في تسويق إنتاجهم، يصابون بشيء من الإحباط والخيبة.

قوة العلاقة ومتانتها بين المؤسسات المشرفة على الثقافة تنعكس على العلاقات بين منتجي الثقافة، سلباً وإيجاباً، والعكس صحيح، لكن يبقى تأثير المؤسسة أكثر مضاء من قوة تأثير الأفراد المنتمين إليها.

المحافظة على المؤسسة واجب وطني، ويجب عليها أن تكون الحامي والضامن والمدافع عن حقوق المنتسبين إليها، لا عامل تفرقة وتمييز بين أعضائها، فهي عندئذٍ لا تسيء إليهم فقط، وإنما تحكم على نفسها بانعدام المصداقية وازدواجية المعايير، والتحيز الذي لا يأخذ بالحسبان الكفاءات الثقافية والمؤهلات الإبداعية، وإنما يستبدل بها العلاقات الشخصية والولاءات التي لا علاقة لها بالمنسوب الإبداعي للمنتج الثقافي.

فإلى مزيد من التعقل، والتروي، والهدوء، والابتعاد عن الانفعال والتسرع في إطلاق الأحكام وكيل التهم، فهي لا تضير الموجهة إليهم، بمقدار ما تسيء إلى مطلقيها، وتتفاقم الإساءة إذا كانت الاتهامات لا تستند إلى حقائق ملموسة وأدلة واضحة مثبتة.

العدد 1102 - 03/4/2024