العبث الجيني وبرمجة الإنسان

د. عدنان عويّد*:

إن الإنسان على مدى تاريخ علاقته مع بالطبيعة والمجتمع، استطاع أن يطوّر وجودَيْه المادي والفكري معاً، فكلما تطورت وسائل إنتاجه مثلاً، تطور الإنتاج نفسه، ورافق تطور هذا الإنتاج تطور بالضرورة في العلاقات الاقتصاديّة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. كما يتجلى التطور في الإنسان الفرد نفسه، أي في نفسيته وأخلاقه وقيمه ونظرته إلى الحياة ومهاراته الشخصيّة واهتماماته وميوله وسلوكياته وغير ذلك. والتطور الأهم في حياة الإنسان قد حدث برأيي مع قيام الثورة الصناعيّة أولاً، ومع الثورة المعلوماتية الفضائيّة ثانياً، فعندما حقّق الإنسان هذه الثورة بجهوده العضليّة والفكريّة المتراكمة تاريخيّاً، استطاع في الحقيقة أن يحقق بعمله هذا، تغييراً جوهريّاً في معطيات عمل العالم الإنساني بكل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وآليّاتها، وذلك بسبب ارتباط الكثير من مؤسسات الحياة بهذه الثورة ومعطياتها، ممثلة بالحاسوب والنت والفيس والخلوي وغيرها من الوسائل التكنولوجية المرتبطة بهذه الثورة التكنولوجية بكل مفرداتها، التي أصبحت حاجات أساسيّة وضروريّة في حياة الإنسان بشكل عام.

إن هذه التكنولوجيا على سبيل المثال راحت تبرمج كل نشاط الإنسان من الهاتف الجوال الفردي، وصولاً إلى أجهزة المؤسسات التي يعمل بها، وهذه البرمجة ذاتها طالت سلوكيات وتفكير الإنسان أيضا، أي أن الإنسان ذاته تبرمج عقله ونفسيته ونشاطه بما يتفق وآليّة عمل هذه التكنولوجيا ذاتها.

بيد أن مسألة التطور هذه بكل أطرفها وآليّة عملها، راح يتحكم بها تاريخيّاً مَن سيطر على ملْكِيّةِ هذه التكنولوجيا، وهي الطبقة الرأسماليّة عبر تاريخها، منذ أن كانت طبقة تقدميّة ناضلت من أجل حريّة الإنسان وكرامته وعدالته، وصولاً إلى المرحلة التي تحولت فيها إلى طبقة رأسماليّة متوحشة في ظل النظام العالمي الجديد، وبالتالي تخلّت عن كل قيمها ومبادئها التي قاتلت من أجلها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لتظل السوق وحرّية السوق وقيمها ومبادئها، هي المشروع الأول والأخير في اهتماماتها، هذه السوق التي راحت تعمل من خلالها على تسليع الإنسان نفسه وتنميطه بما يتفق ومصالحها الأنانيّة الضيقة.

كيف حققت الطبقة الرأسماليّة المتوحشة نمذجة الإنسان وتذريره؟

لا شك أن قيم ما بعد الحداثة، التي مثّلها ورسم خرائطها اقتصاد السوق الرأسماليّة المتوحش، ممثلاً بحوامله الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، راحت هذه الحوامل تشتغل وبكل قدرة ودراية، وبما امتلكته من وسائل التأثير على المتلقي، إن كان امتلاكها للمال وتسخيره في كل ما يساهم في تحقيق أهدافها، كاستخدام وسائل الإعلام الموجّه، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو شراء الكتّاب والمفكرين والأدباء والفنانين، وبالتالي تسخيرهم، أو استخدام السلطات التي أصبحت بيدهم وفي مقدمتها سلطة الدولة، لفرض نمط الاستهلاك ومنطقه أولاً، أي الاستهلاك المنتزع من صلته العضويّة بالمجتمع، على اعتباره استهلاكاً من أجل الاستهلاك، وليس استهلاكاً يهدف إلى تأمين حاجات المجتمع الماديّة والروحيّة، بقدر ما همّه، في ظل عصر الرأسماليّة المتوحشة، تحقيق الربح المفتوح على المطلق، والمستعد أن يعلّق المشانق لكل من لا يستطيع الاستهلاك، كما راحت الطبقة الرأسماليّة ذاتها تعمل عبر وسائلها ثانياً، على تذرير الإنسان وتنميطه، من خلال إبعاد تفكيره عن أي كتلة اجتماعيّة تحيط به أو نشأ فيها، وفي مقدمتها الأسرة والدولة، بل ومجتمعه الذي ينشط فيه، والنظر إلى نفسه وقدراته الذاتيّة فقط من أجل تحقيق ذاته. وبناءً على هذا التوجه فإن مارغريت تاتشر، عندما كانت رئيسة للحكومة البريطانيّة في ثمانينيات القرن الماضي، دعت (الفرد) قائلة: (لا تنظر إلى فوقك أو تحتك أو إلى جانبيك، بل انظر إلى داخلك، إلى أعماقك، حيث يكمن دهاؤك وقوتك وإرادتك والأدوات كلها اللازمة لتقدم الحياة. لن يوجد بعد اليوم قادة عظام يقولون لك ماذا تفعل ويريحونك من المسؤوليّة المتعلقة بتبعات أفعالك.. هناك أفراد فقط يحيطون بك كباراً وصغاراً عليك أن تتعلم منهم وفقاً لمهاراتك وقدراتك الذاتيّة، وأنت وحدك من يتحمل نتائج ثقته بأعماله وما تختاره في هذه الحياة. إنه (مجتمع الأفراد).(1).

إن الهويّة بشكل عام تتحول وفق هذا التوجه هنا من (قيمة وجوديّة) إلى (مهمة). أي لم تعد انتماءً وتضحية وارتباطاً بالمجتمع والوطن، بل تحولت إلى وسيلة تشكل فرديّة أعضائه، والأعضاء يشكلون مجتمع التفرد وموقفهم من أعمالهم في مجتمع التفرد.

ونجد كاتباً وعالم اجتماع بريطاني هو أوليرش بيك، يراقب عن كثب ما يجري في ظل النظام العالمي الجدي، واصفاً المجتمع الصناعي في مقال له بعنوان (فناء المجتمع الصناعي) قائلاً: (يصدر عن القواعد الاجتماعيّة في أفولها (أنا) عدوانيّة مرعوبة عارية تبحث عن الحب والمساعدة. وفي بحثها عن نفسها وعن تئام اجتماعيّ حنون تتوه بسهولة في غابة الذات.. ومن يفتش في غابة الذات لم يعد بمقدوره أن يدرك أن هذا الانعزال.. هذا الحبس الانفرادي للأنا، هو حكم جماعي أيضاً.) (2).

إن الفرد الحقيقيّ أصبح في مجتمع النظام العالمي الجديد، أو عالم ما بعد الحداثة، هو الذي لا يلوم أحداً على ما يعانيه من بؤس وشقاء، ولا يبحث عن أسباب فشله إلا في كسله وبلادته، ولا يبحث عن حل إلا في الجد والاجتهاد. أي بالاعتماد على ذاته، لأنه لن يتوقع أن يساعده أحد، ولكنه يستطيع أن يتعلم – هذا إذا استطاع أن يتعلم في شريعة الغاب هذه، من تجارب الاخرين، دون أن ينتظر مساعدتهم. إنه عالم (قلّع شوكك بيدك) كما يقول المثل العربي. وهنا يأتي الفرق بين المواطن والفرد.

التفريد المطلق للفرد وفقدانه جوهره الإنساني:

في ندوة عقدت مؤخراً في إحدى الدول الأوربيّة تناولت مسألة عالم ما بعد الحداثة وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع ليس في أوربا فحسب، بل في العالم الذي قد طاله النظام العالمي الجديد بقيادة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة، ومهندسة خرائط هذا النظام حاضراً ومستقبلاً. ونظراً لخطورة وأهميّة ما طرحته هذه الندوة من قضايا تهم مصير الإنسان، عملت على تلخيص أبرز ما جاء في إحدى المداخلات الجادة التي تناولت طبيعة وآليّة النظام العالمي الجديد.

وتعتبر الهندسة الوراثيّة اليوم، وتكنولوجيا زراعة الأجسام الإلكترونيّة في الإنسان، أو التعامل مع الذكاء الاصطناعي، أو ما يسمى تكنولوجيا (النانو)، أو (علم التحكم الذاتي)، من أهم القضايا التي يشتغل عليها قادة النظام العالمي الجديد، وعلينا أن نميز هنا بين التكنولوجيا التي تساعد الإنسان ذا الاحتياجات الخاصة ليعيش حياة طبيعيّة، وبين هذه التكنولوجيا التي تهدف إلى تحويلنا كليّاً إلى روبوتات بشريّة. إن الإنسان الذي سيتجاوز (البيولوجيا) التي أعطته إياها الطبيعة أو جبل عليها، وبعد الوصول إلى مرحلة التفرد المنمذج، لن يكون هناك أي فرق بين الإنسان والآلة، أو بين الواقع والواقع الافتراضي.

إن من المهم أن نفهم مشروع ما بعد الإنسان، كونه مرحلة انتقالية ما بين الإنسان وما بعد الإنسان، فالهدف النهائي هو التخلص تماماً من الإنسان كما نعرفه اليوم، وحينما نعرف السبب الرئيس وراء هذا التوجه وهو (العبث البيولوجي)، والانحراف الاجتماعي، وتذرير المجتمع، وفردنة الإنسان ونمذجته، من خلال الإعداد التربوي والبث الإعلامي الموجه لتحقيق هذا الإنسان ذي البعد الواحد كما يصفه هربرت ماركوز، ولكل ما تعرض ولم يزل يتعرض له خلال عشرات السنين يأتي تحضيراً لتقبله حياة ما بعد الإنسان لاحقاً، فالأمر يتطلب الكثير من الإساءة الجسديّة والنفسيّة والأخلاقيّة لإرغام كائنات ذكيّة مثلنا تتقبل الانقراض، أو التحول الجنسي.

إن أغلب إن لم نقل كل الأحداث في النصف قرن الماضي كانت مصممة من أجل تقريبنا لقبول هذا الواقع الفاسد. فسواء تقبلت هذا الأمر أم لا، فنحن نعيش داخل منظومة فائقة التحكم.

نعم.. وعينا بالواقع قد تم التخطيط له، وتسييره وتنفيذه بعناية تامة من أجل التحكم فينا وأخذنا إلى أية جهة يرغبون بها، وهذه الوجهة هي (ما بعد الإنسان). ولتحقيق ذلك كان عليهم العمل على:

أولاً_ زعزعة ثقة الإنسان بنفسه وتجريده من إنسانيته، وزرع اليأس في نفسيته عبر كل الوسائل الماديّة والمعنويّة المتاحة.

ثانياً_ تحطيم نواة العائلة من خلال تربية أفرادها عبر مؤسسات الدولة التربويّة والإعلاميّة والثقافيّة، كالتربية التي تقوم على تشجيع الاجهاض، والمثلية والتحول الجنسي، وتحييد القضاء، والإيمان بالله والروحانيات.

ثالثاً_ تشجيع الناس للعيش في المدن الكبيرة، بعيداً عن الأرياف والطبيعة، وتسميم الغذاء من خلال الصناعات الغذائية المعلبة، وتسميم حتى المياه والهواء، ونشر الأمراض بين أفراد المجتمع. أي العمل على تطبيق النظرية المالتوسيّة الجديدة.

رابعاً_ نشر مواقع التواصل الاجتماعي بدل التواصل والتفاعل الحقيقيين بين الأفراد، ومن ثم تقديم كل ما يحرك أهواء وغرائز الناس، كالإباحية الجنسيّة والمثليّة والتحول الجنسي، والأكثر اهتماماً عندهم هو دفع الناس لممارسة الجنس بعيداً عن أية سلطة قانونيّة أو أخلاقيّة حتى ولو كانت ممارسته مع الحيوانات.

خامساً_ صنع الأزمات الماليّة والزيادات المستمرة بالضرائب ورفع الأسعار وخلق الأزمات المعيشية، وصنع الحروب، وتشجيع الهجرة الجماعيّة، ونشر القلق والاكتئاب والمخدرات والكحول، والخوف الدائم من الناس والمستقبل، وانعدام الأخلاق كدين جديد.

ويمكن المواصلة دون توقف في شرح كيف يجري التأثير في إبعاد الإنسان عن إنسانيته، من خلال النشر والتعميم والتجسيد لأي شيء يبعد الإنسان عن مصادر قوته وأمانه، أو تحقيق أي هدف إيجابي في هذه الحياة، أو أي معنى للحياة. والهدف الأكثر أهميّة عندهم هو إيجاد مجتمع ضعيف في وحدته وأخلاقه واتصالاته وصحته وعلمه أو معرفته الإيجابيّة عن نفسه وعن واقعه ومن يتحكم به.

إذاً، إن الهدف هو صنع جيل كامل من الكائنات البشريّة الهجينة أو المهجنة. فالذكورة هنا يجب أن تبقى محط هجوم نفسي وأخلاقي وثقافي وبيولوجي، ودفع هذا الإنسان المراد نمذجته وتهجينه باتجاه الرياضة والترفيه والتخنيث من خلال رجال يميلون إلى تقليد النساء في مظاهرهنَ، وكذلك تعليم الأطفال في المدارس بأن الجنس (ذكر وأنثى) هو خيار يمكن تحقيقه بالتحول الجنسي.

إن كل ما جئنا عليه هنا ليس حركة طبيعيّة، بل وجدت بأوامر فوقيّة ليس لها أي دخل بحريّة الإنسان في التعبير عن جنسه، أو حقوقه المدنيّة، بل هي أجندة مدروسة وبعناية شديدة ذات بعد شرير وفاسد لتغريبنا وإيصالنا إلى مرحلة ما بعد الإنسان، وجعلنا نتساءل عن أهم شيء في هويّة الإنسان هو جنسنا البشري.

* كاتب وباحث من سوريّة

d.owaid333d@gmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024