ماذا تبقّى من العراق!!!

د. نهلة الخطيب:

الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته الإدارة الأمريكية، في عهد جورج بوش الابن في المنطقة، لترسيخ زعامتها الانفرادية في العالم، بدأت ملامحه تظهر في العراق، عندما أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، على القيام بعمل عسكري كبير، يهدف إلى تغيير الأنظمة السياسية في بعض دول المنطقة، ومنها العراق، وتنصيب أنظمة جديدة، تتلاءم مع المصالح والأهداف الأمريكية في الشرق الأوسط، وتدمير مرتكزات القوة العربية، لضمان أمن إسرائيل وتمدّدها وظهورها كقوة إقليمية، والسيطرة على منابع النفط، وحماية الممرّات البحرية، لضمان إمدادات الطاقة. وفي دراسة لستيفن والتز، وجون ميرشيمر، عن اللوبي الصهيوني، نشرت في 2006، تقول: (الضغط الصهيوني في واشنطن كان له دور فعال في احتلال العراق، وغالباً لمصلحة إسرائيل، وليس البترول فقط)، وفي إعلان نشر في صحيفة (نيويورك تايمز) قبل هجمات أيلول، موقّع من المؤرخ الصهيوني برناردو لويس، المعروف بمطالبته بتفكيك العراق وإقامة ثلاث دول فيه، على أسس طائفية وعرقية، يرى فيه أن العراق يشكل الخطر الأكبر على إسرائيل.

ومن الدوافع العقدية الإسرائيلية التي تروج لسحق العراق، تتعلق بأن أرض إسرائيل من النيل إلى الفرات، وما جاء في الأساطير التلمودية إن خراب دولتهم الثانية، سيكون على أيدي جند أولي بأس شديد، يخرجون من أرض بابل، كما خرج نبوخذ نصر، الذي دمر دولتهم الأولى قبل آلاف السنين، فأسر رجالهم، وسبى نساءهم وجعلهم عبيداً، وإن ما يسمّى بهيكل سليمان لن يبنى إلا إذا خُرّبت بابل، ولن يعود الربّ حتى يُبنى الهيكل، ولن يُبنى الهيكل حتى تؤدّب بابل وآشور!! مؤكّداً ذلك، بات روبرتسن، أبرز الآباء الروحيين لتيار المحافظين الجدد، بعد اجتياح العراق، (ها هي ذي أمم الأرض، كما تقول النبوءات العبرانية، تشكل نظام دفاع جديداً، للدفاع عن إسرائيل، والانتقام من بابل، بقصفها من السماء؛ لأنها هي التي عذّبت شعب الله المختار وأغرقته بالدموع والأحزان).

تفاقم القلق الإسرائيلي، من تعاظم وتطور القوى العسكرية العراقية على المستوى الإقليمي، فجرى توريط العراق بالحروب لإضعافه تمهيداً لاحتلاله، بدأت مع إيران، ثم الكويت، وشاركت إسرائيل في رسم خرائط الحرب على العراق. وكانت البداية الفعلية لتمزيق العراق في 5/4/ 1991، عند صدور القرار (688) من مجلس الأمن المتضمن إنشاء إقليم كردي في شمال العراق، بحماية أمريكية بريطانية إسرائيلية، مما أفقد العراق 40% من سيادته على أراضيه، وأصبح عرضة للاختراق الجوي والاستخباراتي الإسرائيلي، ثم جاء الاجتياح للعراق عام 2003، تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، وبناء عراق ديمقراطي!! فكان بيئة مناسبة لأمريكا وإسرائيل، لتنفيذ مخططاتها في المنطقة بذريعة مكافحة الإرهاب، فتحول العراق على مدى سنوات إلى خراب، وفوضى خلاقة، فوضى الاستراتيجية الأمريكية المعروفة، وعنف طائفي، وبدأت مرحلة جديدة غير مسبوقة من العلاقات مع إسرائيل، وخاصة مع الإقليم الكردي، الذي أصبح مستقلاً بحكم الأمر الواقع بعد الاجتياح، وتحديداً مع البارزاني، (المفجوع بنجله الذي كان من قتلى طوفان الأقصى في غلاف غزة)، فكان قاعدة عسكرية أمريكية، ما منح إسرائيل ميزة استراتيجية على أعدائها في المنطقة.

وقد جرى الاتفاق مؤخراً على تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية والتحالف الدولي من العراق، والمفروض انسحابها بنهاية عام 2021، غير أن نتيجته ليست واضحة، فالانسحاب الأمريكي من العراق ليس جديداً، فقط بدأ في عهد أوباما وفق خطة هدفت إلى سحب كل القوات بحدود نهاية 2011، مع الإبقاء على قوة لا تزيد عن 50 ألف جندي، ولكن ظهور داعش دفع أوباما إلى إعادة إرسال قوات جديدة عام 2014، تحت مظلة التحالف الدولي، ترامب الذي رأى أن غزو العراق كان خطأ، ذهب نحو تخفيض قوات بلاده في الشرق الأوسط، خلفه بايدن لا يريد إخلاء تامّاً للساحة العراقية، وذلك للحفاظ على حضور أمريكي فيها.

وبعد دخول خطط الانسحاب حيز التنفيذ، تظهر تساؤلات عديدة حول البدائل المطروحة لإبقاء أمريكا نفوذها في العراق بعد خروجها منه، وأبرز هذه البدائل التي سوف تحقق لها ما لم تستطع  تحقيقه بالقوة العسكرية، خلال السنوات الماضية، هو مخطط تقسيم العراق، فمن خلال هذا المخطط،  تتمكن من إبقاء نفوذها على الكيانات الخارجة من رحم الدولة العراقية، والتي ستكون بطبيعة الحال ضعيفة، وتحتاج إلى المساندة الأمريكية في مقابل منحهم نفوذاً قوياً، عبر نشر قوات عسكرية تستطيع من خلالها الحفاظ على مصالحها، ليس فقط في العراق، وإنما في منطقة الشرق الأوسط. وهنا يحضرني ما اقترحه هنري كسينجر حول ضرورة تقسيم العراق، كمخرج لحل الأزمات التي تواجهها الإدارة الأمريكية في العراق: (لكي يكون الشرق الأوسط كبيراً، وهو الذي لا يمكن تغيير جغرافيته، يجب أن تكون دول هذا الشرق الأوسط صغيرة، وغير قابلة للحياة بمفردها، فلا بد من قوة عظمى تدعمها لتعيش، وتبقى بتثمين الدولة الطائعة، ومعاقبة الدولة العاصية، وهذا هو معنى دولة الثواب والعقاب، وما العراق وتقسيمه سوى البداية).

وهذا ما حصل فعلاً، من تقسيمات طائفية وقومية في بنية الحكومات المتعاقبة بعد الاجتياح، وتوزيع المناصب على أساس هذا التقسيم، ودعم الأكراد قومياً، وعندئذٍ تكون كركوك نقطة الخلاف بين العرب والأكراد، العراق خاضع للاحتلال الكامل، ويمرّ بمخاض عسير وتطورات سريعة، وحالة من الغليان الشعبي والفوضى السياسية والأمنية، في العراق تتجسد الوحشية الأمريكية التي استباحت كل شيء، فمن أين لنا بنبوخذ نصر لإنقاذ ما تبقّى من العراق؟!

العدد 1105 - 01/5/2024