المثقف وعصره بين أبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعرّي

يونس صالح:

يقف تاريخ الفكر حزيناً دائماً عند أبي حيان التوحيدي، ومصدر الحزن هو أن هذا المفكر والفيلسوف عاش عيشة ضنكة دائماً، ومات منبوذاً بعد أن أحرق بنفسه كل كتبه، وكادت كتب التاريخ الفكري والأدبي أن تهمله إهمالاً.

يتفق جميع المؤرخين أنه عاش بين سنتي 312 -400هـ، وبين الميلاد والموت عاش التوحيدي حياة صعبة مارس فيها مهناً مختلفة لا تتناسب مع قدراته العلمية والثقافية، ولقد كان مصدر غربته أن القرن الرابع الهجري كان عصر اضطراب سياسي كبير في الدولة العباسية، اضطراب أشاعته طبقة القادة الترك، وطبقة الوزراء وحريم الحكام، وكثرت فيه مؤامرات البلاط، وانتشرت فيه الفتن والمجاعات، وفي وسط هذا المناخ حاول التوحيدي مثل غيره الاقتراب من بعض الأمراء، إلا أنه فشل دائماً في الحفاظ على صلة دائمة وطيبة بأيٍّ ممّن لحق بهم.. لأنه كان مفكراً حراً يميل إلى الاعتزال- أي مذهب المعتزلة- فنُفي من بغداد، وقد اتصل بالكثير من الأمراء والوزراء الآخرين، ومدح البعض منهم مثل ابن العميد، إلا أن كل ذلك لم يكن ليشفع له عند السلطات المسؤولة بسبب أفكاره، وفي إحدى رسائله إلى أبي الوفاء المهندس وأحد ندماء الوزير أبي عبد الله العارض، وقد جاءت في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) كتب فيها: (أيها  الشيخ، سلّمك الله بالصنع الجميل، وحقق لك وفيك وبك غاية المأمول، وأنا أسأل الله أن يحفظ عنايتك علي، كسابق اهتمامك بأمري، حتى أملك بهما ما وعدتنيه من تكرمة هذا الوزير الذي قد أشبع كل جائع.. ولم يبق في هذه الجماعة على فقره وبؤسه غيري، مع خدمتي السالفة والآنفة).

ثم يتابع فيقول: (خلِّصني أيها الرجل من التكفّف، أنقِذني من لبس الفقر، استرني بالإحسان).. ثم يتابع: (إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع…)، ويظل أبو حيان بعد ذلك يعدّد مناقب الوزير ومناقب صديقه أبي الوفا المهندس.

رسالة غريبة من كاتب كبير اتسم بالصراحة الزائدة، لكنه أيضاً رضي في وقت ما أن يلتحق بالحكام وفقاً لشروطهم، دون أن يعرف قواعد لعبتهم، لذلك لم يستفد منهم.

اشتد القهر بأبي حيان فأحرق كتبه بعد أن قال عنها في رسالة أخرى إلى القاضي علي بن محمد: (أعلم أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سرّاً فلم أجد له من تحلّى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً.. فحرقت ذلك كله، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين عاماً، فما صح لي من أحدهم وداد، ولقد اضطررت بينهم- بعد الشهرة والمعرفة- في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء.. وإلى بيع المروءة وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحرّ أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم..).

لعل هذا الجزء من رسالة التوحيدي يكشف عن نصيبه هو أيضاً في الخطأ، ولكن النصيب الأكبر كان للعصر نفسه الذي دفع هذا العالم إلى الجوع والعري الدائم.

إن رسالته الأخيرة تقدم لوناً من ألوان الاحتجاج الحقيقي، ونوعاً آخر من الاغتراب.

أما رسالة المعري التي أقصدها هنا فهي رسالته إلى أهل المعرة، عند خروجه الحزين من بغداد، مجمل الرسالة أنه أزمع العودة إلى المعرة، والدخول إلى بيته دخولاً لا خروج بعده إلى الأبد.. والأهم هو أنه لا يريد لأحد من أهل المعرة أن يخرج لاستقباله، فما الذي دفع أبا العلاء إلى ذلك حقاً؟ لقد كان أبو العلاء يدرك معنى سجن العمى، لكنه كان يدرك سجناً آخر أقسى هو سجن الروح في الجسد، وإذا أضفنا إلى ذلك معرفة أبي العلاء بعصره، وهو نفسه القرن الرابع الهجري، والنصف الأول من القرن الخامس، الذي ازدادت فيه أحوال الخلافة العباسية سوءاً، عرفنا كيف ولماذا لم يسعَ أبو العلاء سعي التوحيدي إلى أيٍّ من الأمراء، لقد سعى إلى سجن ثالث هو البيت، لقد قرّر أبو العلاء مواجهة اغتراب العصر باغتراب إرادي منذ وقت مبكر.

إن التوحيدي وأبا العلاء عاشا عصراً واحداً، وشهد أبو العلاء النصف الأول من القرن الخامس الهجري، أي شاهد مزيداً من التفسخ للدولة العباسية، ورسالته ورسالة التوحيدي وجهان لعملة واحدة هي العلاقة بين المثقف وعصره، المثقف الحقيقي في عصر أهمّ ما يميّزه مؤامرات الحكام وأطماع الجيران.

أبو حيان هو صورة المثقف الذي لا يرى له طريقاً خارج المؤسسة الحاكمة، فكانت نهايته الفاجعة حين اكتشف أن هذا الطريق مفتوح لعديمي الموهبة فقط. أما الموهوبون فلا يستطيعون التعايش مع جو النفاق السائد، فينتحرون، وأبو العلاء هو صورة المثقف الجبار الذي يحدّد من البداية موضعه فوق العصر والحكم وحكامه، فيعتزل الجميع اعتزالاً مثمراً لا اعتزال الغريب الذي، وهو يدرك أن جسمه سجن لروحه، يدرك أن العصر سجن لطاقته وقدراته العقلية والأدبية، ومن ثم وجب الاغتراب وبالإرادة.

إن أبو حيان وأبو العلاء، يصلحان إذاً نموذجين لشكل العلاقة بين المثقف وعصره.. إن نموذج أبو حيان متجدد دائماً، لكن نموذج المعري هو ما نحتاج إليه في عصرنا.

 

العدد 1104 - 24/4/2024