التراث اللامادّي لشعوب منطقة الهلال الخصيب.. الشماغ الفلسطيني: قصة النهر والسنابل

أ. صفاء طعمة:

للملابس تأثيرٌ هامّ في حياة الشعوب، ومعظمها يحمل مدلولات رمزية مترسخة، وتتعدّى حكاياتها حدود الجغرافيا ومنطق التأريخ، ويشكّل بعضها جزءاً هامّاً من الهوية الوطنية، ورمز الانتماء والتوجّه الفكري لتلك المجتمعات، وتكوّن تعبيراً صريحاً عن التضامن مع قضاياهم وأفكارهم. ولنا في الوشاح الفلسطيني ذي اللونين الأبيض والأسود، أو ما يسمى (الشماغ) مثال حيّ عن تلك الحكايات.

فالشماغ أو الكوفية الفلسطينية من أكثر الرموز التعبيرية تداولاً في العالم التي ترمز إلى التضامن مع القضية الفلسطينية، ويكفي أن يلتفّ به أيّ إنسان في أي مكان من العالم ليعلن دون أن ينطق أي كلمة عن تبنّي فكرها بشكل صريح، ولا يوجد حاجة للتوضيح أو الشرح. فما حكايته؟ ومن أين جاء؟

تقول الحكاية إن صياداً من أرض الرافدين جلس محتاراً على طرف قاربه وسط مياه النهر الكبير يندب صيده القليل وقد لفحته شمس دجلة، فحاول تخفيف حرارتها والاحتماء من قيظها بشبكته الفارغة؛ وبكاهل مثقل بالهموم انحنى إلى النهر الجاري، يسأل الإلهة أن تمنّ عليه برزق يسدّ رمق أولاده الجائعين، ولأن ما من أحد أجاب نداءاته وابتهالاته، نظر مليّاً إلى انعكاس صورته على المياه، لكن ملامحه تغيّرت فجأة، فقد راقه ما رأى رغم الألم. كان منظر تقاطع خيوط الشبكة اللامعة فوق جبهته المحترقة وانعكاسها على المياه الرقراقة منظراً لامعاً جميلاً، وهذا ما اعتبره الصياد الكهل فأل خير، فعاد ليرمي الشبكة إلى وسط المياه، وكانت المفاجأة أنها عادت إليه مليئة بالصيد الوفير. ولما عاد إلى بيته في المساء وحكى لزوجته ما حدث، أرادت أن تعبر عن شكرها لذلك الحظ الجيد وتبقيه مرافقاً لزوجها، فنسجت له وشاحاً زيّنته بخيوط متقاطعة، يلبسه عند الذهاب إلى الصيد، ويقيه حرارة الشمس. ثم رسمت عليه خطوطاً متشابكة تشبه شبكة الصيد وأضافت إليه رسمة تشبه حراشف الأسماك وشكل السنابل في دعوة إلى الرزق والخير، كما حدّدته بخطين مستقيمين ليأخذ البركة من نهري دجلة والفرات العظيمين.

تتخطى هذه الحكاية حدود الواقع، فقد نسجتها من خيالي الأدبي، لكنني في الأصل استندت في كتابتها إلى قصة قرأتها أثناء البحث عن أصول تسمية غطاء الرأس أو ما يسمّى (الكوفية) أو (الشماغ).

انتشر لبس الشماغ بين الرجال من سكان العراق وبلاد الشام، ثم انتقل منها إلى شمال الجزيرة العربية وأرض الحجاز واليمن.

أما تاريخ ارتباط اليشماغ الأسود والأبيض مع القضية الفلسطينية واعتباره رمزاً قوميا للمقاومة فهو حديث العهد نسبياً، ويعود إلى زمن الاحتلال البريطاني عندما كان الفلاحون الفقراء يرتدونه في حياتهم اليومية وأثناء عملهم في أراضيهم لتغطية رؤوسهم اتقاءً للبرد أو الحر، ثم استخدموه أيضاً بعد اندلاع الثورة على الانتداب البريطاني وفي عملياتهم ضدها آنذاك. فقد كان الشماغ وسيلة ناجعة لإخفاء ملامحهم وتفادي الاعتقال ومتابعة العمل النضالي. ومع أن سكان المدن كانوا يرتدون الطربوش إلا أنهم، بعد حملات الاعتقال التي طالت أبناء الريف، أصبحوا يرتدون الشماغ ليصعب بذلك على جنود الانتداب مهمة ملاحقة الثوار واعتقالهم.

ومن هنا نجد أنه ليس غريباً أن يكون الشماغ أحد الدلالات الرمزية ومظهراً حضارياً يسِم التراث الشعبي لأزياء أبناء هذه المنطقة وملابسهم التي تطورت منذ الألف الرابع قبل الميلاد رغم أن الرسوم الموجودة والآثار تدل على وجوده قبل ذلك بزمن بعيد.

فقد وردت كلمة (يشماغ) في اللغة السومرية، وهي تطور لغوي للمقطعين اللغويين (إِش) والتي تعني غطاء الرأس و(ماخ) أو ذو مكانة عظيمة وعالية، إذ شاع استخدامه قبل الالف الرابع قبل الميلاد، وتمييزه بعلامات صورية سومرية تدل على أن من ارتداه هم من علية القوم أو الكهنة.

وبشكل عام فإن (اليشماغ) الحالي هو امتداد (لليشماغ) السومري، إذ صار قطعة واحدة، ففي العهد السومري ازدهرت صناعة النسيج، واستُخدمت فيها خيوط الصوف والكتان، وكان الكهنة خلال فصل الربيع يرتدون الملابس البيضاء، ووضع بعضهم على رأسه قطعة من القماش الأبيض، وأرخى فوقها شبكة سوداء مصنوعة من صوف الأغنام كشبكة صيد السمك، في رمز إلى موسم الخير والتكاثر. ومع مرور الزمن صار غطاء رأس الكهنة هذا ملاصقاً للشماغ، وأصبح يحاك من النسيج نفسه. ويبدو أن ما أضافه إليه نساجو ذلك الزمان من خطوط شبكة الصيد وزعانف الأسماك، تؤكد العلاقة بين رمزيته وارتباطه بطرد الأرواح الشريرة من لابسيها، خاصة أن رمز الأسماك كان أحد المعتقدات الراسخة في هذا الجانب الأسطوري منذ عهد السومريين في العراق

وتخبرنا التماثيل والمنحوتات الأثرية أن أهم حكام بلاد الرافدين الذين لبسوا الشماغ هو أمير سومري اسمه (گوديا Gudia) الذي حكم مدينة مهمة هي مدينة لكش في الألف الثالث قبل الميلاد (2144-2124 ق. م)، وتُبيّن تماثيله المحفوظة في متاحف العالم ومنها متحف اللوفر أنه أول من لبس اليشماغ على رأسه كعصابة ملفوفة وليس شماغاً مسترسلاً متدلياً، وذلك لأنه كان أميراً وكاهناً له مرتبة عالية، وربطته مع ممالك الخليج العربي وشرق الجزيرة العربية علاقات صداقة وتجارة قوية.

وفي زمننا هذا ينتشر ارتداء الشماغ الأسود والأبيض في سورية وفلسطين والعراق، أما الأحمر فهو منتشر في الأردن والسعودية، بينما تنتشر الغترة البيضاء في الإمارات العربية ودول الخليج العربي، ويرتدون فوقها العقال وهو حبل طويل أسود اللون غالباً يصنع من وبر الماعز المحبوك والملفوف.

وأيّاً كان لون الشماغ، ومهما كانت الفكرة التي يرمز إليها، إلا أنه كان ولا يزال رمزاً يدل على الرجولة والصمود وحب الأرض، وهو جزء أصيل من هوية متأصلة تخص أبناء هذه المنطقة؛ تتمثل بحميمية ارتباطه بتراث الآباء والأجداد ونضالهم الدائم. تطور مع تطور مفهومهم الجمعي وبقي حيّاً على مرّ العصور والسنين بسبب الأمل المنتظر من خيرات هذه الأرض وبركتها.

العدد 1105 - 01/5/2024