الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة الفلسطينيين

د. نهلة الخطيب:

وضعت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في مواجهة مباشرة مع الفلسطينيين، فهناك استنفار كامل في الإدارة الأمريكية من الرئيس جو بايدن إلى وزير خارجيته بلينكن ووزير الدفاع لود أوستن، إضافة إلى مستشار الأمن القومي وغيرهم من المسؤولين الأمريكيين الذين أعربوا عن دعمهم الراسخ واللامحدود لإسرائيل في هذه الظروف الحرجة التي تمر فيها، بعد الهجوم الواسع النطاق الذي شنته فصائل المقاومة الفلسطينية ضد المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، هذا الموقف الأمريكي أُرفق بتحذير أي طرف يحاول استغلال هذا الوضع للحصول على مكاسب في ظل هذه الظروف. وهذا الدعم الأمريكي الراسخ تبلور بإعلان مساعدات عسكرية جديدة: ذخيرة للقبة الحديدية، وصواريخ استعداداً لسيناريوهات مختلفة، ودعم استخباراتي للحصول على معلومات حول كيفية تحرير الرهائن الموجودين لدى الفصائل الفلسطينية، وما يجري من لقاءات عسكريين واستخباراتيين أمريكيين وإسرائيليين لمناقشة إمكانية تنفيذ عمليات خاصة للإفراج عنهم.

الحشد الأمريكي في شرق المتوسط بإرسال بارجة ثم دعمها ببارجة أخرى مع مقاتلاتF5، وزيارة بلينكن ولود أوستن لإسرائيل ما هي إلا رسالة ردع قوية وإعادة تأكيد على أن أي طرف يشارك مع الفلسطينيين في غزة أو يفتح جبهة جديدة من لبنان أو سورية أو تدخل قوى أخرى وتوسيع رقعة الحرب فإن ذلك سيؤدي إلى رد أمريكي حادّ قد يكون تدخلاً مباشراً أو مزيداً من الدعم، فالموقف الأمريكي إذاً يتلخص بثلاثة أشياء: دعم غير مشروط لعمليات إسرائيل ضد الفلسطينيين، حصر النزاع في قطاع غزة، منع اتساع رقعة الحرب في إشارة إلى حزب الله وإيران، وهذا ما يفضح طبيعة المخاوف الأمريكية، فهل الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر إسرائيل أمام خطر وجوديّ حتى تنجدها بهذا الدعم الكبير؟؟

غزة، التي حلم رابين أن يصحو وقد ابتلعها البحر، تصنع معجزة لتخرجنا من عجزنا، في أكبر صفعة يوجهها عربي لإسرائيل منذ نكبة 1948، وتصنع لنا نصراً بطعم الحلم وتعيد روح المقاومة الفلسطينية التي بهت بريقها بعد اتفاق اوسلو، تخلق وقائع على الأرض التي من شأنها تغيير موازين القوى، طوفان الأقصى حرب بدأت بعد يوم واحد من ذكرى حرب تشرين التحريرية، حرب مفتوحة أسقطت بعض المستوطنات الإسرائيلية، وقتلت المئات من جنود الاحتلال، وكان هناك حصاد وفير من الرهائن بأيدي الفلسطينيين، لا نعلم إلى أين ستمضي ولكنها ستبقى جزءاً من تاريخ فلسطين بعد أن خذلها العرب الذين مضوا إلى التطبيع.

الرد الإسرائيلي كعادتهم كان وحشياً دون رادع، واتبعوا سياسة الأرض المحروقة والتهجير الجماعي، كما قال نتنياهو (حرب لا هوادة فيها).

هناك توظيف للموقف الأمريكي من قبل نتنياهو لتبرير جرائم إسرائيل والقيام بما تراه مناسباً للقضاء على المقاومين الفلسطينيين، فالضوء الأخضر الأمريكي أعطي لحكومة نتنياهو وبناءً عليه ارتكب المزيد من جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسقوط الكثير من المدنيين، إذ إن 90% من عمليات القصف الإسرائيلي تستهدف الأماكن المأهولة ولا اعتراضات أمريكية عليها، وبذلك أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية شريكة فيها، بلينكن في زيارته للمنطقة بصفته يهودياً وناجياً من محرقة الهولوكست متجاهلاً أن الغرب هو من صنعها، يشارك في محرقة بحق الفلسطينيين، ولم يتحدث عن أي خفض للتصعيد ووقف العنف، هو يتحدث أنه سيوفر لإسرائيل كل ما تحتاجه للدفاع عن نفسها، وبعد الاندفاع الأولي الأمريكي في الوقوف مع إسرائيل نرى التأكيد على احترام قوانين الحرب والحفاظ على حياة المدنيين، فهناك محاذير يعرفها بايدن، لأن سقوط الكثير من المدنيين ربما يغير المعادلة ويغير العواطف داخل الولايات المتحدة الأمريكية وحتى المؤيدة لإسرائيل وتتحول ضدها. السقف الأمريكي عسكرياً ليس محدّداً إلى الآن بانتظار بدء الاجتياح البري لغزة والسيطرة عليها، هناك تغيير ديموغرافي ضمن خطة متفق عليها لتهجير السكان إلى سيناء، وتقويض البنية العسكرية للفلسطينيين واتخاذ الإجراءات المناسبة، ونتائج هذه العملية ستملي تطوراً في الموقف الأمريكي، وهذه مسألة ليست بالسهولة التي يرونها، فمحاولة الدخول إلى غزة ربما تتحول إلى حرب شوارع وهذا يعني خسائر كبيرة لهم.

جلسة طارئة لمجلس الأمن لتشكيل زخم سياسي ودبلوماسي على الصعيد الدولي بدأه وزير الخارجية الأمريكية بلينكن بالاتصالات مع وزراء الخارجية في المنطقة، من أجل دعم إسرائيل وإدانة وشجب واستنكار للفلسطينيين، فرنسا تدين بأشد العبارات وتحظر الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، ألمانيا ستشارك بطائرتين حربيتين وبريطانيا سترسل سفناً تابعة للبحرية الملكية وطائرات تجسس لدعم إسرائيل ضد غزة، طريقة تحدث المسؤولين الأمريكيين عن الأعمال الوحشية والبربرية التي جرت بعد طوفان الأقصى، وأن إسرائيل لها حق الدفاع عن النفس، وأن الإدارة الأمريكية تبارك السياسة التي تتبناها إسرائيل بحق الرد والانتقام، يا لوقاحتهم! وكأن الفلسطينيين هم من يحتلون إسرائيل، وهم يعلمون أن الفلسطينيين في غزة يعيشون في سجن مفتوح، وهذه أول مرة يواجهون إسرائيل بهذا التحرك، ومن قتلتهم إسرائيل خلال السنوات الأخيرة أكثر بكثير من خسائرهم في طوفان الأقصى.

انفضح الانحياز الأمريكي مرة أخرى في التعامل مع المعضلة الفلسطينية، فالإدارة الأمريكية التي تواجه الجمهوريين وصقور الجمهوريين الذين يتهمونها بالتواطؤ والتخاذل، ستضطر لاتباع مثل هذه السياسة، فهناك عدد من المواطنين الأمريكيين الذين جرى قتلهم وأسرهم في طوفان الأقصى، ولكنها ستجد نفسها في وقت لاحق أنها في مواقف صعبة بسبب السياسات التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ نكسة حزيران عام 1967 بإيجاد حل سلمي يضمن إقامة دولتين وحق تقرير المصير للفلسطينيين وحق العودة واعترافها بقرارات الأمم المتحدة (242- 338)، ولكن على ما يبدو هي وسيلة لكسب الوقت وتمرير العنصرية الصهيونية ونظام الأبارتهايد بصفتها هي الديمقراطية، بدأ التغيير بعهد دونالد ترامب الذي اعتمد قراراً جريئاً متجاوزاً سابقيه من الرؤساء كلينتون وبوش واوباما أعلن فيه الاعتراف بالقدس كاملة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، فأشعل فتيل الصراع الملتهب أصلاً في منطقة الشرق الأوسط، وبايدن يبدو أنه يتبنى موقفاً مماثلاً في مزايدة أمام إسرائيل من يدعمها أكثر: الديمقراطيون أم الجمهوريون؟ وهذا يظهر أن السياسات التي تتبناها الإدارة الأمريكية هي التي سمحت لإسرائيل الاستمرار في عمليات القمع والتهجير والقتل للآلاف بينهم مئات الأطفال والنساء، وانتهاك كل القرارات وتحدي المجتمع الدولي الذي أضاع الحقوق الفلسطينية الموثقة بموجب قرارات الشرعية الدولية، وهذه السياسات أدت بإسرائيل إلى الوضع الحالي.

لاشك أن إسرائيل تلقت ضربة هائلة هزّت كيانها المنيع، واخترقت المنظومة الدفاعية للجيش الإسرائيلي رغم تفوقه العسكري، فضلاً عن الصراعات والنزاعات الداخلية بسبب أدائها الحكومي السيئ بوصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، والمخاطر الأمنية والتهديدات العسكرية التي تحيط بها من كل الجهات متمثلة بالمقاومة الفلسطينية وحزب الله وإيران التي باتت على وشك حيازة السلاح النووي، وهذا ما يثير المخاوف الأمريكية (الدولة العميقة) على إسرائيل من اندلاع أي حرب ستكون حتماً خارج السيطرة، ويمكن أن تؤدي إلى تغيير كلي في المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط ينعكس على الحرب الأوكرانية التي تديرها أمريكا بالوكالة، وبالتالي تصبح كل المصالح الاستراتيجية الأمريكية في مهبّ الريح، وهذا ما تراهن عليه روسيا والصين وإيران لينقضوا عليها.

يبدو أن العملية معقدة للغاية، ولا أعتقد أن الأمور ذاهبة للانفراج، بل على العكس يبدو أن هناك سعياً لتنظيم الأشياء في إطار حرب طويلة نسبياً على المدى المتوسط بناءً على ما صرح به نتنياهو حول شرق أوسط جديد، طبعاً الحرب تتضمن الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى ضبط هذا النزاع لكيلا يتحول إلى مأساة بشرية!!!

وإذا استمر التصعيد، في ظل الصمت العالمي، فسيكون له تداعيات لا أحد يعلم إلى أين تتجه، وكأنهم يدفعون الأمور إلى خيار اللاعودة، فهناك تمادٍ ومزيد من الانتقام من دماء الأطفال والأبرياء، وفي ظل هذا المشهد تغيب أي آفاق لحلول سياسية أو تسويات، ولم يبقَ هناك أيّ شيء للتفاوض عليه مع الفلسطينيين، فعلى ماذا سوف يتفاوضون؟ على الأرض المحروقة؟!

العدد 1105 - 01/5/2024