لينين.. القائد المفعم بالإنسانية

فادي إلياس نصار:

أيام المجاعة الرهيبة عام 1919، كان لينين يخجل أن يأكل الطعام الذي يرسله إليه الرفاق والجنود والفلاحون من الأقاليم، وحين كانت الرزم تصل إلى شقته الكئيبة تتجهم طلعته، ويتفاقم ارتباكه، ويعجّل في توزيع الطحين والسكر والزبدة على الرفاق المرضى أو الذين أنهكهم نقص الغذاء. كان عظيماً بصورة استثنائية، بسبب العداوة الشديدة التي كان يكنّها لتعذيب الإنسان واضطهاده، وإيمانه العميق بأن العذاب لا يشكل جزءاً أساسياً من حياتنا، بل هو شيء بغيض على كل البشر أن يقضوا عليه. هذه الشاعرية نمّت عن رقيّ في التفكير، فهل كان في داخله شاعراً أو أديباً تسمو أفكاره إلى الخلود؟

 

بين حب بوشكين وصداقة غوركي

قبل أكثر من مئة وأربعين عاماً، وفي مدينة صغيرة على ضفاف نهر الفولغا تدعى سيمبيرسك، ولد فلاديمير ايليتش أوليانوف، ولقِّب بــ(لينين) نسبة إلى نهر سيبيري يدعى (لينا). كان والداه مثقفين من الدرجة الأولى، الأمر الذي يجعلك لا تستغرب أن يكون بوشكين، الجد الأكبر للأدب الروسي الحديث وخالق اللغة الروسية الأدبية، محبّباً جداً إلى نفس لينين، وأن يكون الصديق الغالي هو مكسيم غوركي، الذي أكد دائماً على علاقته بالزعيم لينين بقوله: (كانت علاقته بي علاقة معلم صارم.. وصديق طيب، كثير العناية بي، لقد قال لي ذات مرة: علينا أن نقدم للجماهير كل ما عندنا، وما عند أوربا من الأدب الثوري!)، وأنه (على الأديب الحق أن يمشي أمام القارئ لا أن يسير وراءه!). ويأتي غوركي على شخصية صديقه قائد (ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى) في كتابه (الفن والأدب)، قائلاً: (لم أكن أتوقع أن لينين ألثغ، مكتنز الجسم.. كله بساطة متناهية.. لا يشعر المرء معه أنه أمام القائد)، متابعاً أن لينين أشار مرة إلى النواقص في رواية (الأم)، إلا أنه أردف قائلاً: (لقد جاء في وقته تماماً)، عندئذٍ فرح غوركي قائلاً: (لقد كان هذا إطراؤه الوحيد، لكنه إطراء له قيمته القصوى بالنسبة لي).

لقد أحب لينين كتب غوركي، وخصوصاً (نذير العاصفة)، ورواية (الأم) وكتاب (طفولتي).

 

لينين النقي.. يضحك!

كتب غوركي أعذب الكلام وأصدقه في لينين الإنسان، بعيداً عن كونه رجل سياسة وقائداً عظيماً (كما كتب العبقري إيريك فروم عن ماركس)، وكان يرى فيه شخصاً بارعاً في الإصغاء والتعليق بالنكتة المرحة، ويذكر أنه قال ذات مرة: إنه لشيء حسن أن يرى المرء الجانب المسلّي من إخفاقاته، إن خفة الروح هي صفة صحية رائعة، وأنا حساس لهذه الصفة رغم أني غير موهوب بها، ولا ريب أن في الحياة منها بقدر ما في هذه الحياة من أحزان ومآسٍ). ويضيف: (إن دهشتي كبيرة كيف أن هذا الرجل (لينين) الذي شاهد وعاش الكثير من المصائب والمآسي، كان قادراً على الضحك بذلك القدر من السذاجة والطيبة)، ويسترسل في الوصف مستغرباً كيف أن لينين بعد أن استغرق في الضحك مسح عينيه من الدموع وقال: (إن الإنسان الشريف ذا القلب النقي والطاهر وحده يستطيع أن يضحك بهذه الصورة).

 

جون ريد في الساحة الحمراء

كان فولوديا قارئاً نهماً، ومثقفاً غير عادي، بمعنى أن ثقافته تجاوزت روسيا، فكان يعرف عن الفنانين الألمان أكثر مما يعرف الألمان عن فنانيهم. وكانت هوايته المفضلة زيارة المكتبات والمطالعة والكتابة، إذ إنه حتى المعرفة المجردة كانت تهم لينين وتجعله يشعر بالنشوة الكاملة، فكل معلومة مهما كانت بسيطة أو غير ذات أهمية عند الآخرين، هي ذات أهمية في تشكيل رافد أساسي لثقافة الفرد. وقد كانت له علاقة جيدة مع الأديب البريطاني (هربرت جورج ويلز)، فقد زار ويلز في عام 1914 روسيا، ورأى أن النظام القيصري فيها قمعي وفاسد، وقد تفهم أهداف ثورة أكتوبر. وفي عام 1920 زار ويلز الإتحاد السوفياتي والتقى لينين، وكان لينين بعد الثورة قد قرأ رواية (عشرة أيام هزت العالم)، وقال فيها: (باهتمام بالغ وانتباه لا مثيل له، قرأت كتاب جون ريد (عشرة أيّام هزّت العالم)، ودون أيّ تحفّظ، أوصي جميع عمّال العالم بقراءته). وبناء على ما سبق فإنه ليس غريباً أن تسمح السلطات السوفياتية بدفن شخصيتين أمريكيتين في مقبرة الكرملين في موسكو، وهي مقبرة مخصصة عادة لدفن القادة السوفييت البارزين، وأن يكون أحدهما جون ريد.

 

لينين يكتب عن تولستوي

على الرغم من أن لينين ظلّ حتى أيامه الأخيرة شغوفاً بالأدب وقارئاً له، أو مستمعاً إلى من يقرؤه عليه وهو على سرير المرض. تقول كروبسكايا زوجته: (قبل وفاة لينين بيومين، قرأت عليه في المساء قصة جاك لندن (حب الحياة)، غير أن لينين لم يتوقف عند أدباء روس كبار مثل دستويفسكي مثلاً، ولم يكتب مقالات تتناول الأدباء الروس ونتاجاتهم، إلا أنه تناول وبطرافة بعض أعمال أدبية مثل قصة تشيخوف (العنبر رقم 6)، إذ اعتبرها رمزاً لروسيا القيصرية، وقال إنه خرج من الغرفة عندما قرأها، لأنه شعر بالاختناق وكأنه كان في ذلك العنبر، وهو وصف دقيق وصادق لإحدى روائع تشيخوف، ومقارنته بين شعر ماياكوفسكي وبوشكين، عندما قال له بعض الشباب إن ماياكوفسكي بروليتاري وبوشكين بورجوازي، عندئذٍ أجابهم: (إلا أن شعر بوشكين أفضل). أضف إلى ما سبق مجموعة مقالات تناول فيها أدب تولستوي ومكانته في تاريخ الأدب الروسي من الناحية الفكرية في المجتمع، وليس الأدبية، فهو يقول: (تولستوي عظيم لتعبيره عن الأفكار والميول التي نشأت لدى الملايين من الفلاحين الروس قبيل قيام الثورة البورجوازية في روسيا، وتولستوي أصيل لأن مجمل آرائه مأخوذة بكاملها من ما يعبر بالذات عن خصائص ثورتنا باعتبارها ثورة بورجوازية فلاحية، وأن التناقضات في وجهات نظر تولستوي ليست تناقضات فكره الشخصي وحده، إنما هي أيضاً انعكاس للظروف والتأثيرات الاجتماعية والتقاليد التاريخية المعقدة والمتناقضة وبالغة التعقيد والتناقض، والتي حددت نفسية مختلف الطبقات ومختلف أوساط المجتمع الروسي في الحقبة التالية للإصلاح ولكن السباقة للثورة).

رحل لينين، صاحب العقل البارد والقلب الحار، رحل صاحب مقولة: (إن مذهب ماركس كلّيّ القدرة لأنه صحيح).

تحية إليك في ذكرى ميلاد الثورة البلشفية يا (فولوديا)!

العدد 1105 - 01/5/2024