الماركسية تجريبياً.. ماركس ضد سبنسر

غسان ديبة:

 

(ليس هناك طريق مَلَكية إلى العلم) .. كارل ماركس

 

يعتقد الكثيرون أن الماركسية هي أيديولوجية لنظام اقتصادي وسياسي يسعى إلى العدالة الاجتماعية والمساواة، وهي بالتالي أيديولوجية بين أيديولوجيات متعدّدة يمكن للأفراد أن يختاروا بينها بما يتناسب مع تطلّعاتهم أو أهوائهم أو مصالحهم. قد يكون هذا هو الانطباع لدى الأكثرية، ولكن الماركسية ليست كذلك. فلا يمكن أن يكون الاختيار بين النظريات العلمية خاضعاً للتفضيلات الشخصية، على الرغم من عدم صحّة هذا القول بشكل مطلق، خصوصاً عندما يكون هناك نظريتان تعطيان المعطيات التجريبية نفسها، ومثال على ذلك بعض النظريات في ميكانيكا الكمّ في الفيزياء، فيصبح الاختيار إلى حدّ ما، أو على الأقل حتى الآن، شخصياً بين تفسير كوبنهاغن مثلاً أو ميكانيكا بوم (Bohmian Mechanics). في الإطار نفسه، لا يمكن اختيار الماركسية إلا لأنها تفسِّر الواقع ولديها نظرية عنه. هذا ما شرع ماركس في بنائه خصوصاً في كتابه (رأس المال).

لدى ماركس نظريتان عامّتان: الأولى، نظرية القيمة والثانية نظرية التاريخ. كما أن هناك تفسيرات وتوقّعات متفرِّعة من هاتين النظريتين العامتين، مثل ميل معدّل الربح إلى الانخفاض في الرأسمالية أو دور الصراع على الحصص بين العمل ورأس المال في إحداث التقلّبات الاقتصادية وغيرها. بالتالي فإن تاريخ الماركسية مليء بمحاولات إيجاد تأكيدات تجريبية على مختلف الطروحات الماركسية، خصوصاً المتفرِّعة منها، لأن نظريات ماركس العامّة قد لا تخضع للوسائل التقليدية للقياس في الاقتصاد والعلوم الاجتماعية. فمثلاً، من الصعب جدّاً اختبار نظرية ماركس عن التاريخ بشكل محدّد، إلا أنه يمكن بدراسة التحول مثلاً من الإقطاعية إلى الرأسمالية أو بدراسة المجتمعات الشرقية مثل السلطنة العثمانية، أن نرى القدرة العلمية للمادية التاريخية في تفسير هذا الانتقال أو تحديد نمط الإنتاج العثماني على أنه مثلاً نمط إنتاج آسيوي أو متحور منه حسب النظرية الماركسية. وعلى هذا التحديد أن يعطى أيضاً تفسيرات إضافية مثل: لماذا لم تتحوّل الإمبراطورية العثمانية إلى الرأسمالية من تلقاء نفسها؟ وهذا التفسير يمكن تأكيده أو لا، طبعاً ضمن الحدود التجريبية التي يفرضها الواقع الاجتماعي الذي لا يمكن تفسيره بالدقّة نفسها الذي يمكن بها تفسير العالم المادي.

 

الاختبار في الاقتصاد

 

بالطبع ليس هناك اختبارات في الاقتصاد إلّا ما هو هامشي، وبالتالي يعتمد علم الاقتصاد على علم القياس الاقتصادي (econometrics) بشكلٍ كبيرٍ، وهو طريقة إحصائية في تأكيد أو نفي العلاقة بين المتغيّرات الاقتصادية، وهذه العلاقة بين متغيّر ما وآخر تكون عادة متفرِّعة من نظرية اقتصادية محدّدة، وبالتالي فان إيجاد أو عدم إيجاد علاقة يؤكِّد أو ينفي هذه النظرية. وهنا لا بد من الإشارة إلى فلسفة العلوم عند كارل بوبر الذي تقول بأن النظريات يمكن نفيها ولا يمكن تأكيدها (falsification hypothesis). وعلى الرغم من مرور حوالي مئة سنة من علم القياس الاقتصادي، إلا أنه لا يزال غير قادر على التفريق بين النظريات بشكلٍ دقيقٍ، وبالتالي نرى أنه لا يزال هناك نظريات عديدة تفسِّر الواقع نفسه ولم يتم الحسم بينها تجريبياً. وخير دليل على هذا الأمر هو ما يحدث اليوم في موضوع منحنى فيليبس (Phillips Curve) وهو العلاقة بين التضخّم والبطالة في الاقتصاد الرأسمالي، الذي اكتشفها البريطاني وليام فيليبس وسمّيت على اسمه في خمسينيات القرن الماضي، وأصبحت هذه المعادلة جزءاً من النماذج المتبعة لتفسير ديناميكيات الماكرو اقتصاد، وفي تحديد السياسات الحكومية وخصوصاً السياسة النقدية. وعلى الرغم من التحوّلات النظرية والتجريبية في هذه المعادلة منذ الخمسينيات، كان هناك لفترة طويلة شبه إجماع حول وجودها وإن اختلف شكل وجودها. إلا أنه في الآونة الأخيرة برزت معطيات دفعت البعض إلى إعلان (موت منحنى فيليبس).

ففي الوضع الاقتصادي الأمريكي، اليوم، يتجلّى خلاف بشأن مدى صحّة منحنى فيليبس الذي يتنبّأ بزيادة البطالة عند اتباع الفدرالي الأمريكي سياسات نقدية انكماشية، وهو ما لم يحصل عندما بدأ الفدرالي بهذه السياسة مؤخّراً. والجدير بالذكر هنا، أو للمفارقة، هناك دراسة نشرت في الفدرالي الأمريكي في عام 2022 بعنوان (من قتل منحنى فيليبس: لغز جريمة قتل) تعزو هذا الموت إلى خسارة العمّال قوّتهم التفاوضية، وتطرح (منحنى فيليبس كاليسكي) نسبة إلى الاقتصادي الماركسي البولوني مايكل كاليسكي. وبالتالي يمكن إضافتها إلى الجعبة التجريبية للماركسية أيضاً! وعلى سبيل المثال، فإن منحنى كاليسكي يمكن أن يفسّر لماذا لم يحصل التضخّم المفرط في لبنان في الأزمة الحالية وهذا موضوع آخر الآن. بالعودة إلى ماركس، فبدءاً من ماركس الذي حاول أن يعطي بعداً تجريبياً لنظرياته باستعمال الإحصاءات أو الأمثلة الرقمية في معادلات إعادة الإنتاج مثلاً، فإن الماركسية كانت دوماً تخضع من الماركسيين أنفسهم قبل غيرهم لمحاولات التحقّق من صحتها أو عدمها تجريبياً أو رياضياً، ولعل أهم مثال على الأخير، وربما أهمّهم بالنسبة للماركسية هو ما عرف بـ(معضلة التحويل) من القيم إلى الأسعار، والتي لم يتم حلّها حتى الآن بشكل حاسم منذ أن دعا أنغلز لحلّها في مسابقة عند نشره المجلّد الثاني من (رأس المال) في 1885.  في هذا الإطار، سأتطرق إلى ورقتين بحثيتين ظهرتا مؤخّراً عن التحقق التجريبي من نظريات في الماركسية. الأولى، نشرت في المجلة الأكاديمية الشهيرة Review of Economics and Statistics عن التراكم الرأسمالي وعدم المساواة، والثانية عن نظرية، ليست لماركس، بل للينين عن الإمبريالية ولم تنشر على حد علمي في مجلّة حتى الآن.

 

ماركس عن التراكم الرأسمالي وعدم المساواة

في المقالة الأولى بعنوان (اختبار ماركس) يجري المؤلّفون بارتلز وكيرستنغ وولف دراسة تجريبية عن بعض الطروحات الماركسية الأرثوذكسية، التي استنتجت من ماركس وكارل كاوتسكي وجوبهت بأطروحات مضادة من الماركسيين الإصلاحيين مثل إدوارد برنشتاين، وتتناول الدراسة بروسيا بين 1874 و1913، وتتناول ثلاثة محاور أو أسئلة: هل يؤدّي تراكم رأس المال إلى صعود حصة رأس المال، وبالتالي زيادة عدم المساواة؟ والثاني، هل يؤدّي تراكم رأس المال إلى تركّز رأس المال؟ وأخيراً، هل يؤدّي تراكم رأس المال إلى زيادة الدعم للأحزاب الاشتراكية؟ الأجوبة التجريبية في المقالة جاءت على التوالي: نعم هناك علاقة بين التراكم وعدم المساواة. نعم هناك تزايد في تركز رأس المال ولكن العلاقة السببية غير واضحة. وأخيراً، كلا ليس هناك علاقة بين التراكم وزيادة الدعم للأحزاب الاشتراكية. إذاً، النتائج مختلفة بين إيجابية وسلبية وعلى الرغم من أنه يمكن التساؤل إلى حدّ ما عن السؤال الثالث ومدى كونه توقعاً فعلياً في النظرية الماركسية، إلا أنه بشكل عام يمكن القول إن النتائج إيجابية لمصلحة الماركسية. في هذا الإطار، يعيب المؤلفون على الماركسية أنها لم تأخذ بالاعتبار دور المؤسسات والتكنولوجيا في تغيير العلاقات الاقتصادية، وبالتالي فإن أية قوانين عامة لا تصلح للرأسمالية. هذا غير صحيح، فالمادية التاريخية إحدى محدّداتها الأساسية التكنولوجيا، كما أن دور المؤسّسات في تحقيق الإخاء أو الصراع الطبقي يمكن تفسيره ماركسياً، وقد فسّر الماركسيون صعود العصر الذهبي للرأسمالية وهبوطه. إذاً، وجود قوانين عامة لا ينفي تميّزها تاريخياً. أخيراً، يقول المؤلفون (على الرغم من أن ماركس قد مات منذ فترة طويلة إلا أن سؤاله عن ديناميكيات الرأسمالية الطويلة المدى سيستمر يخيِّم علينا).

 

لينين عن الإمبريالية وحركة رأس المال

على الرغم من أن البعض لا يعرف ذلك، إلا أن النظريات الماركسية عن الإمبريالية هي نظريات إما تكون صحيحة أو خاطئة، وهي ليست تقسيماً للعالم بين أخيار وأشرار، ومستعمِرين ومستعمَرين إلخ. وبما أن الإمبريالية لم تكن موجودة في زمن ماركس وإنغلز فإن من قارب هذا الأمر هم الماركسيون ما بعدهم وعلى رأسهم لينين. في كتابه (الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية)، يضع لينين نظرية محدّدة لصعود الإمبريالية. وإحدى ميكانيزماتها هي الحاجة المحلّية في الدول الإمبريالية إلى تصدير رأس المال إلى الخارج لتحصيل العوائد الأعلى التي لا يمكن تحصيلها في الداخل. يطرح مؤلِّفو الورقة هاونر ونايدو وميلانوفيتش العلاقة السببية التالية لما أسموه أطروحة هوبسون-لينين وهو أن عدم المساواة في الدول الإمبريالية يؤدّي إلى الحاجة إلى تصدير رأس المال، وهذا يؤدّي إلى الحاجة إلى البناء العسكري في هذه الدول لحماية هذه الاستثمارات (على الرغم من أن لينين اعتبر أن الرأسمال المالي هو أساس هذا الميكانيزم). ويجد المؤلفون تأكيداً قياسياً لهذه النظرية في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى في بعض الدول المتصارعة، وهي الدول التي قادها صراعها الإمبريالي إلى إشعال الحرب الكبرى.

قد يكون التحقّق تجريبياً من أية نظرية عن الاقتصاد أو الواقع الاجتماعي أو التاريخ صعباً للغاية أو يخضع للتأويلات أو الرفض أكثر منه من الفيزياء، على الرغم من أنه كما ذكرت هناك معضلات تجريبية وفلسفية في الفيزياء فيما يتعلق خصوصاً بأسس ميكانيكا الكوانتوم كما في أمور أخرى وآخرها مثلاً عما إذا كان هناك فعلاً معطيات تجريبية تؤكد نظرية الرياضي الفيزيائي روجر بنروز الحائز على نوبل في الفيزياء عن الأكوان الدورية في مواجهة نظرية الانفجار العظيم (Big bang theory). لكن هذه الصعوبة لا تنفي أن الواقع الاجتماعي أو الاقتصاد أو التاريخ الخاضع للنظرية هو ليس فقط ميداناً للصراع الأيديولوجي الفارغ تجريبياً المثقل عقائدياً. من هنا تأتي النظرية الماركسية كنظرية علمية، وهي بالتالي ككل النظريات العلمية يجب أن تخضع للتجربة أو للقياس أو للتطبيق التاريخي لتفسير الواقع اليوم أو بالأمس. وهذا ما قامت الورقتان السابقتان بفعله. ففي عالم القياس الاقتصادي الصعب، قدمتا تأكيدات على متفرّعات من نظرية ماركس، وهذا اليوم هو أمر مهم جداً بالنسبة لعلمية الماركسية التي دروبها بالفعل، كما قال ماركس عن العلم، لم تكن مَلَكية لا في التحقّقات التجريبية ولا في التطبيق (practice)، الذي قد يكون الاختبار الحاسم والأخير للماركسية.

العدد 1104 - 24/4/2024