رحلت مطربة لبنان والعرب بعد سنوات على اعتزالها.. نجاح سلام.. صوت عابر للأبديّة

عماد إدريس:

انطفأت في بيروت أمس مطربة من زمن آخر.. صوتها اختزن تاريخاً كاملاً.. مطربة العروبة والقضايا الوطنية، غنّت مصر وسورية ولبنان وجنوبه الصامد، كما غنّت لعمالقة الطرب والموسيقا على رأسهم السنباطي، وأتقنت الشعبي والطربي والتواشيح والبدوي في أعمال و(طقاطيق) ردّدتها الجماهير من المحيط إلى الخليج.

78 عاماً من الغناء والإرث الفني الكبير. 78 عاماً وهي الصوت المطواع الذي أتقن الشعبي والطربي والتواشيح، والعتابا والفرانكو – أراب، والبدوي. كما غنت (الطقطوقة) مثل (برهوم حاكيني) التي ردّدتها الجماهير من المحيط إلى الخليج، غنّت القصائد الطويلة مثل (لبنان ما أجملك)، والابتهالات الدينية. كل ذلك بأسلوبها الشرقي الذي اشتهرت به وحافظت عليه طوال حياتها. في رصيدها نحو 3700 أغنية و15 فيلماً سينمائياً، وما يزيد على عشرة مسلسلات تلفزيونية ومئات المهرجانات والتكريمات. عاشت نجاح سلام (1931 ـــ 2023) مسيرة فنية زاخرة كانت خلالها رقماً صعباً في عالم الفن مع أغنيات لا تزال حاضرة لغاية اليوم، كأنها وليدة الساعة تتناقلها الأجيال ويُعيد غناءها فنانو هذه الأيام، بداية من أولى أغنياتها في عمر الـ 14 سنة (حوّل يا غنام) مروراً بـ (ميّل يا غزيل) و(الشاب الأسمر جنّنّي) و(يا جارحة قلبي) و(يا ريم وادي ثقيف) وغيرها الكثير.

عازفة عود ماهرة، ورثت حبّه من والدها، فكانت تنظر إلى طريقة حمله العود ومكان وضع إصبعه، فتنتظر خروجه بفارغ الصبر وتحضر المكنسة العريضة وتحملها بدلاً من العود.. إلى أن اكتشف عشقها للعود وأصبح يدربها على كيفية إتقان العزف عليه. في إحدى الحفلات المدرسية، طلب منها الأستاذ فريد مدور إحياء حفلة المدرسة التي حضرها آنذاك الرئيس صائب سلام، وأنطون سعادة، والشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح، فغنّت نجاح (يا أمّ العباية) و(رجعتلك يا حبيبي)، فالتفت الشيخ بشارة الخوري إلى صائب سلام ممازحاً إياه: (ألا تكفيكم السياسة فتأخذون الفن أيضاً؟!). بقيت تغني في حفلات المدرسة بعيداً عن عيني والدها. كان الأخير يسمعها تجوّد القرآن في الطابور، من نافذة غرفته المطلّة على ملعب المدرسة، يبدي إعجابه بصوتها، من دون أن يعرف أن صاحبة الصوت المميّز هي ابنته. والدتها كانت أول الذين دعموا مشاريع الشابة التي لم تبدِ اهتماماً بتحصيلها العلمي، أو بتأسيس عائلة. كان (الفونوغراف) كل ما يستحوذ على اهتمامها، يأخذها في رحلات بعيدة على جناح أصوات خالدة مثل أم كلثوم، أو الموسيقار محمد عبد الوهاب.. حتى ظهرت رويداً رويداً ميولها الإبداعيّة الفنية.

سنباطيّة الهوى والنغم، كانت تعتبر نفسها دوماً من تلامذة السنباطي الذي سمعها للمرة الأولى في القاهرة عام 1949 ولفته صوتها ونغمها الصحيح، فسألها: (تعلّمتي المغنى فين؟)، أجابته: (في بيتنا)، فردّ: (هو في بيتكم غنا؟)، فتدخّل يوسف وهبي قائلاً: (ده بيتهم معهد موسيقي كبير ووالدها محيي الدين سلام من كبار عازفي العود في لبنان). هنا عدّل السنباطي طريقة جلوسه قائلاً: (سأعطيك ألحاناً خالدة)، فكانت: (أنا النيل مقبرة للغزاة) إبان العدوان الثلاثي على مصر، و(الله يسامحه)، و(ياما شالله)، و(يا ظالمي)، و(أمة الحق)، و(انحنِ يا تاريخ)، وأغنيات وطنية كثيرة غيرها. غنّت لعباقرة النغم في العالم العربي مثل رياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي، وأحمد صدقي، وفيلمون وهبي، وعفيف رضوان، وطارق عبد الحكيم، ومحمد جمال، والأخوين رحباني اللذين غنّت لهما قبل فيروز، مثل (وقّف خدني بأوتومبيلك) و(بقعد جنبك).

ثمانية أفلام في مصر وسبعة أفلام في لبنان حصيلة نجاح سلام السينمائية، معظمها مع إسماعيل ياسين الذي كانت تربطه بها صداقة متينة. لم تكن مولعة بالسينما ولكن طوّعت الفن السابع لإيصال أغنياتها. فتحت السينما أمامها أبواب نجاح وشهرة إضافيَّين، فمثّلت مع سعاد حسني، وفريد شوقي، وعبد السلام النابلسي، وشمس البارودي، وفهد بلان، وناظم الغزالي، وكارم محمود، وشكري سرحان، وتحية كاريوكا وغيرهم الكثير. كانت تعتبر أن أقرب أفلامها إلى قلبها هو (مرحباً أيها الحب) مع سامية جمال والمخرج محمد سلمان، و(عنتر يغزو الصحراء) (إخراج نيازي مصطفى) مع فريد شوقي، رغم أن أشهر أفلامها جماهيرياً هو (السعد وعد) مع إسماعيل ياسين و(سر الهاربة) مع سعاد حسني.

لم تستهوِها السينما التي كانت تعتبرها ممرّاً، ولكنها كانت تعتزّ بأغنيتها (شيء من الغضب) (من فيلم (عمر المختار)) التي تتكلم عن الأمة العربية الممزّقة، من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان محمد الموجي. مطربة العروبة حوربت فنياً وإنسانياً، وتحمّلت الكثير بسبب التزامها بمبادئها التي لم تحِد عنها. حملت صوتها عالياً في خدمة القضية العربية التي آمنت بها مع زوجها الراحل محمد سلمان. غنّت لبنان وجنوبه الصامد، حملت راية الوطن العربي الكبير، فغنّت مصر والكويت والأردن والجزائر والسعودية وسورية. وإبّان حرب 1956، أشعلت الأفئدة والحناجر بصوتها الهادر بالأغنية الأيقونية (يا أغلى اسم في الوجود.. يا مصر). وعلى إثر تأميم قناة السويس، غنّت (يوم النصر عصرنا قلب الأعدا عصر). ومنذ ذلك الوقت حصدت لقب (عاشقة مصر).

ناصرية الهوى، تذكر لقاءها الأول بعبد الناصر الذي كان يرى أنّ (أغنية على الشفاه أفضل من مليون جريدة أو صاروخ). كان اللقاء الأول خلال العدوان الثلاثي على مصر (1956) وهي تسجّل في الإذاعة (النيل مقبرة الغزاة) من شعر محمود حسن إسماعيل وألحان رياض السنباطي، (التفتُّ فجأة، فإذا بعبد الناصر يستمع إليّ في غرفة الكونترول، أوقفنا كلّ شيء وهرعنا لمصافحته). منحها عبد الناصر هي ومحمد سلمان الجنسيّة المصرّية. وفي سنوات المواجهة تلك، قال موشي دايان عنها: (هذا الصوت يهدّد أمن إسرائيل).

استمدت نجاح ذلك الإرث الوطني والعروبي من عائلتها. تذكر أنه عندما جاء المندوب السامي لزيارة جدّها الشيخ عبد الرحمن، رفض مقابلته لعلمه ببواطن الأمور وقال لجدّتي: (قوليلو عبد الرحمن توفّى!) وكانت تتفاخر بأنها من جذور عائلة معروفة بكرهها للطائفية. عندما غنّت أحد أشهر أناشيدها (سورية يا حبيبتي)، كانت بصوتها الداعم الأول للبطولات السورية على الجبهات، لكنها كانت أيضاً تحية وفاء للبلد الذي انطلقت منه كحال العديد من مطربات ذلك الزمن مثل فايزة أحمد، وسعاد محمد، فتقول إنّ (أعظم فنّاني لبنان ولدوا فيه، لكنهم عرفوا الشهرة في سورية. سورية تُجيد تكريم الفنان ورعايته ودعمه). جابت البلاد العربية غناء وطرباً، فغنت في معظم العواصم. لم تهزمها اللهجات، فكانت لساناً عربياً مطواعاً، من أوائل المطربات العربيات اللواتي قدّمن اللهجة الخليجية غناء وإبداعاً. تعتبر أول مطربة عربية تزور الكويت وتغني على أرضها عام 1962، فقدّمت أكثر من 25 لحناً كويتياً والعديد من الألحان السعودية المتميزة. كُرِّمت في لبنان عندما قلدها الرئيس اللبناني الراحل إلياس الهراوي وسام الأرز. وبعد 15 عاماً منحها الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة (وسام المليون شهيد). حملت لبنان في قلبها وطافت باسمه تلك العواصم، وكانت في الصفوف الأولى عند أي حدث وطني. في حرب تموز 2006، أحيت العديد من الحفلات في مصر وذهب ريعها لصالح ضحايا الحرب.

وكما كانت مطربة العروبة والمطربة السنباطية، كذلك كانت الفنانة الملتزمة. كانت تتفاخر بأنها لم تقدّم الأغنيات الهابطة وارتدت الحجاب مقتنعة بأنه (لا يوجد نص قرآني يحرم الآلات الموسيقية أو صوت المرأة)، فاستمرت بابتهالاتها، معتبرة أنّ آلة العود اختُرعت في عصر الخلفاء الراشدين، ومبتعدة عن المعارك الجانبية ومهاترات الصحف الفنية.

(الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024