دروس من الماضي – البيريسترويكا

آراء

 

رعد مسعودي

 

 

كانت علاقات الأحزاب الشيوعية في العالم بشكل عامّ، وفي البلدان العربية بشكل خاص، مع الحزب الشيوعي السوفييتي، علاقات رفاقية عميقة، فقد كان الرفاق السوفييت مرشدين للعمل ومصدر حلّ المشاكل التي يمكن أن تظهر هنا أو هناك.

كان الاتحاد السوفييتي يشكل لنا مصدر كل المعلومات حول ما يحدث في دول العالم، وكانت الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية تبني مواقفها من أية قضية من خلال موقف الاتحاد السوفييتي منها. الشيء نفسه كان ينطبق على ما يحدث في الاتحاد السوفييتي نفسه من عمليات البناء والتطوير والتغييرات السياسية التي ظهرت خاصة في النصف الثاني من عقد الثمانينيات بعد انعقاد المؤتمر الـ ٢٧ للحزب، أي إن المعلومات التي كانت تصل إلى الأحزاب الشيوعية العربية، كانت شبه (مقدسة)، وبالتالي كانت أحزابنا تدافع عن كل ما يقوله الاتحاد السوفييتي بحكم دوره العظيم في مساعدة شعوب ودول (العالم الثالث)، التي تحرّرت للتو من الاستعمار وبدأت تبني دولها الوطنية، خاصة بعد انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب الوطنية العظمى، هذا الانتصار، الذي شكل عاملاً أساسياً في انتصار الشعوب في حروبها التحررية.

في ظل كل هذا، وبالرغم من العلاقات الرفاقية الجيدة، التي كانت تربط الأحزاب الشيوعية العربية مع الحزب الشيوعي السوفييتي، فإنها لم تتدخل في الشؤون الداخلية للاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي فيه، وخاصة في (الصراعات) التي كانت تظهر بعد وفاة أي زعيم سوفييتي، بل كانت أحزابنا ترحب بالزعيم الجديد لإيماننا المطلق بصحة قرارات الرفاق الكبار، وهذا ينطبق على وصول (الزعيم) السوفييتي الشاب غورباتشوف بعد سيطرة (الختايرة) لفترات طويلة على مقاليد السلطة في جميع المجالات.

كان وصول الشاب غورباتشوف إلى قمة الهرم في الحزب الشيوعي السوفييتي، ظاهرة غريبة بعد وفاة العديد من القادة (الشيوخ) الذين شكلوا انطباعاً سلبياً في المجتمع السوفييتي بالرغم مما قدموه.

هذا المجتمع كان بحاجة إلى تجديد (دمه) ودفع الشباب إلى المراكز القيادية.

غورباتشوف، الذي نزل من قمة الهرم ودخل الشارع وتحدث مع الناس البسطاء في ظل ترحيب دولي بوصول (قائد) شابّ إلى قمة السلطة.

هذا كله خلق حالة عجيبة من الترحيب الهائل داخل المجتمع السوفييتي وحزبه الشيوعي، وكذلك داخل أحزاب الحركة الشيوعية العالمية وبضمنها الأحزاب العربية، لما طرحه هذا (الزعيم) الشاب من مفاهيم (أكثر) إنسانية لبناء وتطوير المجتمع السوفييتي الاشتراكي، الذي كان بحاجة إلى إصلاحات والذي لم يكن محكوماً بالانهيار! (أدرك الجميع لاحقاً حجم الخداع الكبير الذي تعرض له المجتمع السوفييتي والدولي وكذلك الأحزاب الشيوعية في العالم، التي رحبت وأيدت البيريسترويكا والتفكير السياسي الجديد والعلنية والديمقراطية داخل الحزب والمجتمع، وتحولوا لاحقاً إلى ضحايا أكبر خديعة في تاريخ البشرية المعاصر، كانت غايتها الأساسية تفكيك الاتحاد السوفييتي وليس تطويره كما أُعلِن، هذه الخديعة انطلت على الجميع في العالم ما عدا بعض القادة القلائل في الحركة الشيوعية العالمية، الذين رفضوا وبشكل متواضع تبني سياسات غورباتشوف التخريبية في بلدانهم – هونيكر في ألمانيا الديمقراطية، علماً أن محاولات الرفض هذه كانت رائعة ولكن ضعيفة لم يستطيعوا بلورتها بشكل مؤثر، لأن (السباحة ضد التيار كانت ضرباً من الجنون).

في منطقتنا العربية بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص رحبت الأحزاب الشيوعية بـ(التطوير) الخلاق للفكر الماركسي اللينيني وعُقدت الندوات وكثرت كلمات المدح، وهناك من بالغ بهذا الترحيب والمدح، نتيجة ما كانت تعانيه أحزابنا من مشكلات داخلية خلال عشرات السنين كظاهرة عبادة الفرد وخرق للقواعد اللينينية في التنظيم وتغليب المركزية على الديمقراطية بشكل يتناسب مع تفكير القيادات آنذاك، وهناك من تنكّر للبيريسترويكا خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتنكر لكل ما قالوه وكتبوه عنها ومدحوا ومجّدوا.

إن (دفاع) بعض القيادات في الأحزاب الشيوعية العربية، كان في جوهره ليس دفاعاً عن السوفييت، بقدر ما كان دفاعاً عن نفسها وسيطرتها (التاريخية)، فقد كانت ترى في أي فعل تجديدي داخل الحزب خطراً على وجودها.

اليوم، بعد أكثر من 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي، أدرك الجميع الخطر الكبير، الذي جلبته (البيريسترويكا)، فقد أدّت إلى تفكيك أول دولة للعمال والفلاحين في العالم، كانت قد قدمت الكثير والكثير من المزايا للإنسان العامل.

في ظل كل ما تقدم يمكن تحديد بعض النقاط:

١- إن البيريسترويكا في واقع الأمر كانت عملية تخريبية وإجرامية، غايتها الأساسية تفكيك الاتحاد السوفييتي والقضاء على النظام الاشتراكي فيه من خلال تشويه الماضي السوفييتي وتزوير الحقائق التاريخية، وخاصة الدور الكبير للزعيم التاريخي ستالين، الباني الحقيقي للدولة الاشتراكية الأولى والقائد الفعلي للانتصار على الفاشية وتحرير العالم من خطر النازية.

٢- إن البيريسترويكا عملياً كانت قد بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي (الذي أيده كل قادة الحركة الشيوعية العالمية باستثناء الرفاق الصينيين وأنور خوجة في ألبانيا) والتقرير العبثي الذي قدمه خروتشوف والذي كان يحتوي على كمٍّ هائل من الاكاذيب، عادت زمرة غورباتشوف في الثمانينيات واستخدمت هذه الأكاذيب والتزويرات وبشكل ممنهج وبدعم مباشر من قبل عضو المكتب السياسي ياكوفليف (الأب الروحي للبيريسترويكا) وبدعم من الدوائر الإمبريالية، بتجييش جيش من الكتاب والمؤرخين المأجورين، الذين باعوا ضمائرهم لقاء المال والشهرة.

٣- أظهرت البيريسترويكا، بكل ما طرحته من (إيجابيات) وسلبيات، زيف سلوك بعض القيادات في الأحزاب الشيوعية العربية، وكشفت النقاب عن الوجه الحقيقي والمعايير المزدوجة التي كانت تمارسها هذه القيادات وتنكرها لمواقفها السابقة المؤيدة للبيريسترويكا.

٤- بالرغم من كل المصائب التي حدثت في العالم والاتحاد السوفييتي، فإن الاستنتاج الأهمّ هنا: فشل التجربة لا يعني فشل الفكر، وإننا كشيوعيين متسلحين بفكر علمي، الفكر الماركسي اللينيني، قادرون على الاعتراف بأخطائنا وتصحيحها، خاصة أننا كنا ضحايا لعملية لم تكن لنا بها أية صلة لا من قريب ولا من بعيد.

٥- يجب علينا استخلاص العبر والدروس من فشل التجربة في الاتحاد السوفييتي والعمل على تقوية صفوف الشيوعيين ووحدة حزبهم من خلال بناء حزب شيوعي ثوري يتناسب مع الظروف الموضوعية التي تمر فيها بلداننا، علينا نبذ الانقسامات والانشقاقات، خاصة في ظل غياب الخلافات الفكرية والسياسية.

العدد 1105 - 01/5/2024