حوار هادئ لمسألة شائكة

هذا ما كتبناه في عام 2013

( النور):

بعد أن اتخذت الأزمة السورية مساراتٍ ضبابية، إثر تحوّل الحراك الشعبي السلمي إلى مواجهة عسكرية، وتدخُّل القوى الخارجية على خط هذه الأزمة، لم يحصد السوريون من تداعياتها إلّا الخوف والقلق وفقدان الموارد، وسيلاً من الدماء التي تنزف كل يوم، وتهديم المدن والمنازل والمصانع والبنى التحتية، والتهجير القسري الذي جعل حياة المهجّرين جحيماً لا يطاق، فأيُّ (ثورة) في تاريخ الشعوب اتخذت مثل هذه المسارات.. وسبّبت مثل هذه الخسائر؟!

عندما تنعدم الآفاق.. وتُسدّ السبل.. أمام الأساليب التي يستخدمها الساعون إلى التغيير في بلد ما، رغم مشروعية مطالبهم، فهذا يعني أن الظروف الثورية لم تنضج بعد، وأن برامجهم السياسية والاجتماعية لم تلقَ التأييد المطلوب بين القوى السياسية والاجتماعية كي تتحول إلى فعل ثوري يعبّر عن مصالح الأكثرية، وأن عليهم الانتظار كي يعدّلوا هذه البرامج لتصبح أكثر قابلية للتبنّي، وكي يتحول ميزان القوى السياسية والشعبية في غير صالح السلطة القائمة، فألف باء الثورة هي إتقان اختيار لحظة التقدم، ولحظة التراجع. أما استمرارهم بالطريقة ذاتها رغم فشلهم في إحداث التغيير، فيعني الذهاب إلى المجهول. وفي الإرث الثوري العالمي: المجهول هو إجهاض الثورة.. هو الفشل الذريع، هو دفع أثمان لمغامرة غير محسوبة النتائج. والمصيبة أنهم ليسوا وحدهم من يدفع هذه الأثمان، خاصة عندما تتحول مساراتهم من الاحتجاج والإضراب، إلى حمل السلاح ضد الدولة -وفي الحالة السورية- طلب المساعدات من الخارج.. بل دعوته إلى التدخل العسكري المباشر، وعندما تتحول الشعارات ذات المحتوى الديمقراطي، إلى شعارات إقصائية، تمثل مرجعية سلفية تناقض التوجه العام للقوى السياسية والاجتماعية في البلاد.

صحيح أن نظرية الثورة ومرجعياتها الفلسفية والسياسية ليست صنماً ينبغي تقديسه، بل تغتني في كل يوم -كما الحياة- بكل ما هو جديد، مثل استغنائها عن العنف كأسلوب وحيد لتنفيذ التغيير، لكن الصحيح أيضاً أن الاستعانة بالخارج.. والتحريض على تدخّله في مسار هذه (الثورة) بدلاً من تسريع التراكم السياسي والاجتماعي الداخلي المُؤهّل للتغيير، لا يمكن اعتباره إضافة جديدة تفرضها الظروف، بل هو، ببساطة شديدة، تحويل الحراك الذي بدأ تحت شعارات مشروعة من أجل التغيير، إلى خيانة علنية لإرادة التغيير، والانتقال إلى صف أعداء الوطن والشعب، سواء قصد هؤلاء (الثوار) ذلك أم لا.

العلاقة بين (محلّية) الظروف الثورية، وملاءمة المناخ (الخارجي) لا يعني إحلال الخارج – المتمثل بالرأي العام الإقليمي والدولي والدعم السياسي.. وربما في بعض الأحيان بالدعم اللوجستي والمادي – مكان الفعل الداخلي المستند إلى مشاركة أصحاب المصلحة العليا في التغيير. هنا تصبح (الثورة) مختطفة.. فتسقط الشعارات.. وتُسطّح المطالب.. وتُختزل المآلات بمسألة واحدة: القضاء على السلطة القائمة بقوة السلاح، دون تفويض شعبي.. واستلام المقاليد، ولو تم ذلك تحت راية الاحتلال الأجنبي المباشر.

إن شجب الهيمنة وسيطرة حزب على الدولة والمجتمع.. واستنكار القمع، ورفع شعارات سياسية ذات محتوى ديمقراطي واجتماعي عام، لا يكفي ليتحول الحراك إلى فعل جماهيري ثوري، تشارك فيه الطبقات والفئات الاجتماعية (المهمّشة)، والنخب الفكرية والثقافية (المستبعدة). فالقضية هنا هي استحضار البديل، هذا الحزب.. أو التحالف الذي سيقدّم، إضافة إلى (الديمقراطية) وصناديق الاقتراع، النهج السياسي الوطني المستقل، المعادي للهيمنة والاستعمار، سيقدم التوزيع العادل للثروة.. والتنمية الشاملة، البديل الذي يضمن عدم خروج (الاستبداد) من الباب.. والعودة من (الطاقة) أشدّ قسوةً.. وأكثر تطرفاً، البديل الذي يوازن -دون مقايضة- بين مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة المشاركة في (الثورة).

(على ألواح الشمع لا تستطيع كتابة أي شيء جديد ما لم تمحُ القديم وتزيله، أما مع صفحات العقل فالأمر ليس كذلك، هنا لا تستطيع محو القديم ما لم تنجز كتابة الجديد)_ فرانسيس بيكون.

العدد 1107 - 22/5/2024