الإجابة أوضح من أن يُكتب عنها!
د. أحمد ديركي:
بعد انتصار الثورة البرجوازية، وخيانتها للطبقة العمالية التي عاونتها في ثورتها، وتأسيس النظام الرأسمالي، كان لا بد من حدوث تغيّرات جذرية في كل النظم السابقة، تغيّرات جلبت معها مفاهيم جديدة تتلاءم مع هذه التغيرات التي حدثت في المسار التاريخي للبشرية. فظهرت مفاهيم لم تُعرف سابقاً، ومنها على سبيل المثال الطبقة البرجوازية، الطبقة العمالية، نقابة، حزب سياسي، مساواة، ديمقراطية، طبعاً مفهوم الديمقراطية هنا مغاير كلياً عن مفهوم الديمقراطية اليونانية وإن تقاطع معه في بعض الجوانب.
وقد أصبحت هذه المفاهيم مترابطة عضوياً فيما بينها بحيث لا يمكن فصل واحد عن الآخر إلا على المستوى النظري، في سبيل تبسيط دراسته بكل تفاصيله. وتبقى هذه الدراسة المتخصصة، في واحد من هذه المفاهيم، ناقصة إن لم تبيّن ولو الخطوط العريضة لارتباط هذا المفهوم بمفهوم آخر. وأيضاً على سبيل المثال يمكن التخصص بأحد حقول الاقتصاد، مثل التخصص في قطاع المصارف، أو التسويق أو المحاسبة أو غيرها، تبقى هذه الدراسة المتخصصة ناقصة إن لم يكن هناك ربط ولو أولي بالاطلاع على القانون، أو طبيعة النظام السياسي القائم، أو مجمل طبيعة النظام الاقتصادي القائم، أو المؤسسات الاقتصادية العالمية …الخ.
لذا يستحيل الحديث عن نظام سياسي بلا أحزاب سياسية!
فالدولة بمفهومها الحديث، تتخطى التعريفات ما قبل النظام الرأسمالي، التي كانت تنص على أن مهمتها الاهتما بالشأن العام فقط. بل أصبحت أكثر تعقيداً، فدخل مفهوم الأمة ودوره في تشكيل الدولة، والحدود الجغرافية، والسيادة وغير ذلك. لذا يستحيل الحديث عن الدولة بمفهومها الحديث دون الحديث عن الحزب السياسي.
الحزب السياسي، بعامّة، هو اجتماع طوعي لأفراد يتشاركون أفكاراً سياسية واقتصادية واجتماعية، أي يتشاركون الرؤية في طبيعة النظام السياسي الذي يجب العمل على قيامه. ومن أهداف الحزب السياسي تحقيق رؤيته السياسية، أي أن يكون شريكاً فعالاً في السلطة السياسية القائمة لتحقيق برنامجه، أو يكون هو المكون الأساسي لها لتحقيق برنامجه. وبهذا فإن الحزب السياسي يرتبط عمله بشكل مباشر بعمل النظام السياسي فإما أن يكون معارضاً أو موالياً، ويستحيل أن يلعب الدورين معاً. لأن الحزب السياسي يحمل برنامجاً متكاملاً على كل الصعد، وعليه إقناع الشعب ببرنامجه، ليجذب أكبر عدد من المناصرين لبرنامجه، وليس بالضرورة أن يكون كل المناصرين له أعضاء فيه.
يكون عمل الحزب السياسي متفرعاً على أكثر من مستوى، فعليه مراقبة السلطة السياسية وتعرية أخطائها، إن كان معارضاً، ويعمل على نشر أخطاء السلطة بين الشعب، وفي الوقت عينه ينشر برنامجه، ليحصل على أكبر عدد أصوات خلال الانتخابات، لينفذ إلى السلطة ويطبق برنامجه، وبخاصة إن كان حزباً معارضاً.
هنا تكمن المشكلة!
بدخول الأحزاب المعارضة لعبة عدم اتخاذ موقف واضح مما هو قائم فقدت مصداقيتها بين جمهورها، حتى لو كانت تحمل برنامج لا غبار عليه! وفازت السلطة السياسية، تقريباً، في كل أنحاء العالم بضرب مفهوم الحزب السياسي، وساعدها على هذا الأحزاب السياسية نفسها. فتحولت الأحزاب السياسية إلى مجرد شعارات فارغة المضمون إلا من شيء واحد ألا وهو وجودها ضمن السلطة السياسية، وتلعب من داخل السلطة صوت المعارض الهزيل بين حين وآخر.
ففقد الشعب مصداقيته بالأحزاب السياسية، وفقدت الأحزاب السياسية دورها بين الناس وأصبحت السلطة السياسية كأنها لا علاقة لها بكل مجريات الأمور. ومن أكثر الأمثلة بروزاً في هذا نسب التصويت في العالم!
وها هو ذا عالم اليوم يعيش مفهوم الدولة بلا مفهوم الحزب السياسي، وقد حل مكانه المنظمات اللاحكومية الداعمة للسلطة السياسية بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
لكي تعاد الحياة السياسية في أي دولة، يجب على الأحزاب السياسية فيها أن تعيد دورها أولاً بين الشعب وفقاً لبرنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وألا تجزِّئ هذا البرنامج. وفي الوقت عينه على الأحزاب السياسية أن تكون متوافقة في سلوكياتها مع برنامجها لكسب مصداقية لها عند الشعب أولاً. فالشعب راهناً هو من يقلب المعادلة السياسية في أي بلد كان.
هذا حال العالم برمته، فما حال دولنا؟ الإجابة أوضح من أن يُكتب عنها! فدولنا لم تُكمِل التشكل بالمفهوم الحديث، فهل يمكن اكتمال مفهوم الحزب السياسي قبل اكتمال مفهوم الدولة؟ بالتأكيد كلا، فكلاهما متلازما المسار. وإلا أصبحنا كمن يتكلم عن حزب سياسي بلا برنامج، أو برنامج بلا حزب!