عن إبداع الأخوين رحباني

صفاء طعمة:

يشدني طريق السفر الطويل إلى انتقاء أغانٍ هادئة، تثير في داخلي مشاعر متداخلة تستدعي التأمل، في محاولة لإشغال العقل والنفس وبالتالي اختصار المسافات.

وكما غلبت العادة في اختياري، يرافقني اللحن الغني بالصور واللوحات، يرخي بشالاته السمراء على مخيلتي ويلفت انتباهي بوسع المعنى في الكلمات وحنوٍ في النغمة وقوة في التأثير.

يصدح الصوت:

(مرقوا الحصادين مرقوا طيور البرد

يبسوا وراق التين والغيم تلّا الجرد..

عم ينزلوا حساسين يبكوا بفيّ الورد.. وناطورة الحلوين بعدا ما رجعت بعد!).

أيّ عالم تأخذنا إليه تلك الكلمات! أي مشهد متقن الرسم يحكي لنا قصة عن مرور الفصول والزمن والانتظار!

(مين ناطر مين مين ناطر

عابواب الشوق مين ناطر

ناطرها تطلّ وتقلي يا هالمتعوب شو ناطر؟!).

هل من شيء في هذا العالم له القدرة على تهدئة قلب العاشق المحب الملتهب انتظاراً سوى صوت محبوبه، أو هل من جدوى قد تعيد إلى العاشق (المتعوب) سوى سؤال الحبيبة أن:

(يا هالمتعوب شو ناطر) وأي تعب قد يبقى بعد هذا السؤال أصلاً؟ فتكتفي دنياه بوجودها وسؤالها عنه.

أي بساطة سريالية تلك، ان يكتفي المحب بوجود المحبوب لتكون دنياه بخير!

يتقن الرحابنة تلك الحرفة تماماً حرفة تأليف الحكايات، ويحشدون لها كل الأدوات التي يجدونها مناسبة أمامهم، من لحن وكلمة ونغمة، قد تكون عبارة (الكلمة أخت النغمة) الدستور الذي بقي الأخوان رحباني أمينين عليه في التلحين وهي العبارة التي قالها الأب بولس الأشقر لتلميذيه عاصي ومنصور الرحباني، أثناء تلقيهما التعليم الموسيقي على يديه، وقد أكّد عاصي الرحباني هذه الحادثة في حفل تكريم الأب بولس الأشقر، عام 1963.

بقيت تلك العبارة قانوناً يرسم أعمالهما الفنية، وبقيا أمينين عليها في انتقاء الكلمة التي تضيف إلى اللحن وتشترك معه في سرد الحكاية وتقديمها باحترافية إلى خيال المستمع، بأبعاد تقارب الكمال وتأخذه إلى عالمها ليخلق ولو مؤقتاً عالمه المشتهى الخاص به.

لا تقتصر تلك الصور الفنية على فئة العشاق العاديين كما تظهر عادة في باقي الأغاني، فأغلب حكايات تلك الاعمال يمكن إسقاطها على الكثير من مواضيع الحب مثل الحب الأمومي أو الأبوي أو حب الأرض أو الوطن أو انتظار الحصاد أو القطاف أو تضاد النفس البشرية، وستكون كلها صحيحة بامتياز، ونحصل في النتيجة على حكاية تناسب بيئة المستمع وتنقله معها إلى مستوى أعلى قليلاً في اللاوعي لتناسب ظروفه وحياته وكأنها كتبت خصيصاً له.

يمكن للعمل الفني عند الرحابنة أن يلخص بسطورٍ قليلة قصة كاملة أو عمراً كاملاً، كما تضيف ريشتهم المحترفة كلمات تحتفل بكل الأشكال والأصناف، ولهجات ومستويات لغوية لا تخطر أحياناً على البال، تتباين ألوانها وتختلف حدّتها اعتماداً على النص والموضوع، فتبدو زاهية راقصة أحياناً أو تخبو حدتها في انسياب احترافي يبقى بُعْدُ الزمن فيها واضحاً ويعطيها ملامح وعناصر الحكاية الكاملة.

تتقاطع تلك الأفكار في الكثير من الأعمال الرحبانية، وتقدم لنا أغنية (راضية) حكاية انتظار وحب عاشتها صبية عاشقة في تجاذباتها الكاملة وكل مراحلها في انسياب زمني يعطي الانطباع السردي:

(قعدت الحلوة تغزل بْمغزالها

وتراجع حساب العتيق ببالها

عمر الهوى حكاياتها عهد المضى

وكيف غنّت للحلو موّالها)

تحكي الأغنية عن صبية عاشقة وتتحدث عن حكايتها الكاملة في كلماتٍ قليلة، تأخذنا معها إلى تواتر العلاقة وقصص الغيرة والبعد والمعاناة والشكوى، لتنتهي قصتها إلى القرب والرضا.

(راضية بفيّة عيونه راضية

وناسية كل الجروح الماضية

وبدموعها البيضا عحبّه ماضية

حبّو سماها وأرضها وتلالها)

نجزم أن ما نتفق عليه في حكايات الرحابنة هو أن العالم يمكن اختصاره أغلب الأحيان بقرب الأحبة ووجودهم في عالمنا بأي صورة، وأن توازن الوجود قد يكون فقط في رؤيتنا لهم، ليصبحوا هم ببساطة الوطن والأرض والتلال الوحيدة التي نحب أن نستوطنها ونلجأ إليها.

العدد 1105 - 01/5/2024