النيجر.. حلبة صراع جديدة

د. نهلة الخطيب:

إلى أيّ مدى قد تحولت القارة السمراء لساحة صراع جديدة بين القوى العظمى الدولية مع توالي نقاط الاشتعال فيها، وآخرها الانقلاب في النيجر وأحداث السودان وغيرها؟ وإلى أين يقود انقلاب النيجر دول الساحل الإفريقي؟! فالعالم على صفيح ساخن حروب وصراعات هنا وهناك وانقلابات وتهديدات لأمن الطاقة والغذاء والبيئة والأمن الإنساني.

قد يكون الصراع في النيجر امتداداً للصراع الدائر بين الغرب والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، مع تنامي دور روسيا والصين اللتين تحاولان اقتحام القارة السمراء وتحييد الدول الغربية، وقد يتيح الانقلاب للاعبين دوليين آخرين بسط نفوذهم هناك، تعاملت الدول الغربية مع هذا الانقلاب كأنه أول انقلاب، فلماذا هذا التشدد وخاصة من فرنسا التي تُعتبر الخاسر الأكبر؟؟

الغرب هو المسؤول عما وصلت إليه الأوضاع الإفريقية بسبب الآثار الموروثة من العهود الاستعمارية والاستغلال الغربي للثروات الإفريقية ونهبها والترسيم الاستعماري العشوائي للحدود بين الدول الإفريقية، فإفريقيا ما زالت تعاني حتى الآن من مشاكل معقدة على رأسها الفقر والمجاعات والجهل وانتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة وانخفاض معدلات التنمية والتضخم السكاني، وأكبر مشكلة تواجهها إفريقيا وأكثرها كارثية هي احتدام أزمة الهوية بين العرقيات المختلفة، ومحاولة كل طائفة بسط نفوذها على مناطق معينة ورغبتها في الاستقلال الذاتي مما أوجد الصراعات العرقية والحروب الأهلية في شتى أنحاء القارة، وما زالت بعض الدول الإفريقية تشهد صراعات عرقية عنيفة كما في راوندا وبوروندي وأوغندا ومالي والسودان والصومال والنيجر، فهذه الدول تعاني مخاطر عدم الاستقرار السياسي، وهذه الصراعات تؤدي إلى تدهور اقتصادي وانهيار لمؤسسات الدولة وانتشار الفساد والعنف، وهذا ما ينعكس سلباً على الأمن العالمي حسب اعتقاد الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، مما يجعل ذلك مبرّراً لتدخلها السافر بدعوى احتواء هذه المشاكل والمحافظة على السلم والأمن الدوليين. وعلى الرغم من التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها إفريقيا مؤخراً إلا أن هذه التحولات أفرزت أنظمة استبدادية شمولية قمعية بملامح ديمقراطية ليبرالية تحمي المصالح الاستراتيجية للغرب، وقد يستغلها في إثارة الصراعات واختلاق أزمات دائمة لشل مقدرتها على إدارة شؤونها الداخلية والخارجية.

الأوضاع في النيجر تثير قلق الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وخصوصاً فرنسا، لا سيما أن الرئيس النيجيري المعزول محمد بازوم حليف للغرب وشريكهم الاقتصادي والأمني في معركتهم ضد المتشددين، وهو رجل فرنسا الأخير في دول الساحل الإفريقي، تعرض لانقلاب من قادة الحرس الرئاسي في النيجر في 26 تموز من العام الجاري، وقام الجنرال عبد الرحمن تياني بتنصيب نفسه حاكماً للبلاد، وعمل على تعليق الدستور وحل جميع المؤسسات الدستورية، وتوعّد بإيقاف صادرات الذهب واليورانيوم وإلغاء الاتفاقيات العسكرية مع فرنسا، وألغى مهمات سفراء النيجر لدى فرنسا ونيجيريا والولايات المتحدة الأمريكية، تزامنت هذه الأحداث مع خروج مظاهرات في العاصمة نيامي ملوّحين بالعلم الروسي، ومطالبين فرنسا بالتوقف عن سياستها الاستعمارية ومغادرة النيجر فوراً.

النيجر تقع غرب إفريقيا وتشكّل مركز الساحل الإفريقي إلى جانب تشاد ومالي، وهي دولة جارة والخاصرة الأمنية لكل من ليبيا والجزائر، على الصعيد الأمني قريبة من تهديدين خطيرين هما تنظيم بوكوحرام في تشاد والقاعدة في دول المغرب العربي ويمتد إلى مالي وموريتانيا، إضافة إلى أنها مركز لتهريب المخدرات والاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، وعلى الصعيد الاقتصادي لا يتجاوز الناتج المحلي في النيجر 14 مليار دولار 2022 على الرغم من أنها رابع دولة منتجة لليورانيوم العنصر الأساسي في الطاقة على مستوى العالم، إضافة إلى الذهب والألماس والفحم، فقد صنف النيجر إلى جانب تشاد وجنوب السودان ضمن أدنى مستوى من التنمية البشرية حول العالم، وهذا ما يؤشر إلى أن عائدات الثروات الاقتصادية للنيجر لا تساهم في تحسين الدخل القومي، بسبب الفساد والتدخل الدولي وخاصة فرنسا لاستثمار هذه الموارد لصالحها والمستفيدة من 70% من اليورانيوم المنتج في النيجر، وهذا ما تسبب في حقن الشعب النيجري الذي يعاني الجوع والفقر المدقع والجفاف ضدّها، وإن خسارة فرنسا نفوذها في هذا البلد الإفريقي قد يلحق أضراراً كبيرة بملف الطاقة لدى فرنسا.

وتعد النيجر آخر معاقل النفوذ الفرنسي بعد انسحاب الدول الإفريقية واحدة تلو الأخرى مفضلين التعاون مع الصين وروسيا عوضاً عن فرنسا، ومركزاً لعمليات فرنسا المناهضة للجهاديين في منطقة الساحل بعد أن نُقلت القاعدة العسكرية التي تضم ما يقارب 1500 جندي فرنسي منذ نشوب خلاف بين فرنسا وكل من مالي وبوكينا فاسو، وفي حال استمر الانقلاب في النيجر كما حدث في مالي وبوركينا فاسو يتوقع مراقبون أن تفقد فرنسا آخر حليف لها في المنطقة.

المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) أدانت وفرضت عقوبات اقتصادية على النيجر رداً على الانقلاب العسكري غير الشرعي، وأمهلتهم أسبوعاً للعودة عنه وإلا سيكون تدخل عسكري من دول المجموعة، ويقول مسؤول في إيكواس (إن التدخل في النيجر سيكون الخيار الأخير الذي ستطرحه الهيئة لاستعادة النظام السابق في البلاد، ولكن يجب الاستعداد لهذا الاحتمال)، وقد حذّر قادة الانقلاب في النيجر من أي تدخل عسكري في بلادهم معتبرين أن إيكواس تهدف إلى المصادقة على خطة عدوان عسكري ضد النيجر بمشاركة فرنسا، في الوقت الذي نددت فيه مالي وبوركينا فاسو بالعقوبات وهددت (أن أي تدخل عسكري ضد النيجر سيعد بمثابة إعلان حرب ضد مالي وبوكينا فاسو).

الوضع في النيجر لا يمكن فصله عما جرى في مالي وبوركينا فاسو اللتين شهدتا انقلابات عسكرية متعددة.

بانتهاء المهلة المحددة من إيكواس لا أعتقد تراجع قادة الانقلاب عن قرارهم لأن الامور وصلت إلى نقطة اللانهاية، وباعتبار أن الشعب التف حوله فهي ورقة رابحة لاستخدامها بأي مفاوضات مقبلة، واحتمالات أن يكون هناك تدخل عسكري ضعيفة لأن مجموعة الإيكواس اتخذت قراراً متسرعاً نوعا ما، وهو خطير جداً ومن الصعب تطبيقه ومن الصعب الرجوع عنه، فالقضية فيها إشكالية عويصة وأعتقد أنه سيكون هناك تحضيرات عسكرية جدية وتظهر بشكل يوحي أن هناك تدخّلاً، الأمور معقدة واحتمال تبقى بؤرة توتر وورقة للمساومات بين أيدي اللاعبين الكبار الملفات كلها مرتبطة بعضها ببعض بانتظار الرابح في الحرب الروسية الأوكرانية!!

العدد 1105 - 01/5/2024