حول جامعة الدول العربية والتحديات الراهنة (بمناسبة اجتماعها الذي عُقد في جدة)

يونس صالح:

على مدى نحو ثمانين عاماً والنظام العربي يسلك دروباً متعرجة، صعوداً وهبوطاً، انتصاراً هنا وهناك، وانكساراً في معظم الأحيان، أملاً وإحباطاً، لم تأخذ مسيرة البلدان العربية أبداً شكل الخط المستقيم، ولم تكن النتائج تتسق مع المقترحات.

إن سنوات الأمل التي أعقبت إنشاء جامعة الدول العربية لم تكن توحي أبداً بأن هزيمة قاسية تنتظر البلدان العربية عام 1948، وسنوات الإحباط التي أعقبت هذه الهزيمة النكراء لم تكن أبداً توحي بأن الوضع في البلدان العربية سيبعث من جديد على يد الثورة المصرية عام 1952 ويصل إلى ذرا عالية عام 1956.. ولم يتوقع أحد قط ممن شهد أعظم لحظات المد القومي في مرحلة ما بعد السويس أن تلحق بالبلدان العربية عام 1967 هزيمة أشد وأقسى من تلك التي لحقت بها من قبل عام 1948، ثم تتوالى الأحداث بين نجاحات هنا وانكسارات أكبر في فترات أخرى، فهل يعني ذلك أن البلدان العربية محكومة بقانون أبدي للتعاقب بين الهزيمة والانتصار؟ لو كان الأمر كذلك لأصبح من المحتم أن تنهض البلدان العربية من جديد، ولتولد لدينا اقتناع يصل إلى درجة اليقين بأن مرحلة الانحطاط والتفكك التي تشهدها البلدان العربية حالياً ليست إلا مرحلة انتقالية وطارئة، لكن مع الأسف فإن دلائل كثيرة تشير إلى أن الوضع العربي يتردى بشكل مطرد، وأن اللحظات القليلة التي حاولت فيها البلدان العربية أن تستجمع قواها لتنطلق سرعان ما أجهضت قبل أن تتحرك.

إن الواقع في البلدان العربية لم يكن في يوم من الأيام في وضع أسوأ مما هو عليه الآن، حتى في مرحلة الاستعمار المباشر كانت هناك حركات وطنية وشعبية تجسد الأمل في الخلاص.. أما الآن فإن الحركات الجماهيرية في البلدان العربية تعيش حالة أزمة إما بسبب تناقضاتها الداخلية وعدم وضوح الرؤية الفكرية أمامها، وإما بسبب الحصار الرسمي المضروب حولها.. لذلك تبدو البلدان العربية وكأنها تتجه نحو مزيد من التدهور.. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على أحوالها لكي نصل إلى هذه النتيجة.

إنها تبدو وكأنها في حالة حرب إما أهلية أو بينية ولكن بدرجات مختلفة وبأشكال مختلفة أيضاً: في السودان وليبيا واليمن وسورية والعراق، وبين المغرب والجزائروغيرها.. والاختراق الخارجي وصل إلى عظام البلدان العربية.. فلم تكتف الجيوش والأساطيل باستباحة الأرض والمياه الإقليمية العربية، ولكن أدوات الاختراق الحقيقية وصلت إلى المصانع والمزارع والمنازل ثم العقول.

حتى دول الجوار لم تعد تخفي أطماعها السافرة في أراضي البلدان العربية، والأمر لا يقتصر على إسرائيل التي لاتزال تحتل الجولان وغيرها من الأراضي، بل تعداها إلى بلدان أخرى معلومة من هي.

أما عن الثروة النفطية فحدث ولا حرج، فالأرصدة المتراكمة يتم استنزافها، والموارد المالية لا تكفي لسد الاحتياجات وخصوصاً في مشتريات السلاح والغذاء.

وفي هذا السياق لابد من مناقشة بعض المقولات الشائعة في الأوساط الفكرية والسياسية لأجل ضبطها وتحديد الآليات الصحيحة لتحقيقها.

الشعار المطروح الآن للخروج من المأزق الراهن هو شعار (المصارحة قبل المصالحة)، لأن مفهوم (المصالحة) ينطوي ضمناً على تصوير الحالة الراهنة على أنها نوع من (الخصام، يكفي للخروج منها (مصالحة) بين الحكام العرب على طريقة (بوس اللحى)، إنها لا تصلح أبداً وسيلة لإدارة العلاقات بين الدول.

إن المطلوب باختصار شديد وببساطة متناهية هو إسقاط الحواجز المفروضة أمام التفاعل الحر بين التجمعات البشرية في البلدان العربية بكل فئاتها وتياراتها لكي تحدد هي حول أي شيء تختلف وحول أي شيء تتفق وتتحاور بهدف العثور على قواعد وأشكال وأطر مؤسسية مقبولة لحل الخلافات في المستقبل.. فذلك هو الضمان الوحيد حسب رأيي لتجنب كوارث القطيعة أو الخصام في المستقبل بين تلك البلدان.

 

الجامعة العربية.. منظمة أم تجمع

لم تكن الجامعة العربية- بحكم ظروف نشأتها وما استقر عليه الحكام العرب وتبلور في ميثاقها- سوى منظمة إقليمية تقليدية تقوم على أساس السيادة وعدم جواز التدخل (الأمر نظري بحت) والمساواة. وإذا كان التطرف (القومي) قد أسهم عملياً في إضعاف جامعة الدول العربية تحت شعار محاولة تجاوزها نحو صيغة وحدوية أرقى، فإن التطرف (القطري) قد عمل على شلها تماماً متعللاً بالسيادة. والغريب في الأمر أن الدول العربية الأعضاء في جامعة الدولة العربية هي في الوقت ذاته أعضاء في الأمم المتحدة، وقد استند ميثاق الأمم المتحدة أيضاً إلى مبدأ السيادة والمساواة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لكن ذلك لم يحل دون قيام جهاز بوليسي دولي ممثل في مجلس الأمن يتمتع بسلطات وصلاحيات ضخمة وتلتزم جميع الدول الأعضاء بقراراته وتتمتع فيه بعض الدول الكبرى دون غيرها، بالعضوية الدائمة وبحق الفيتو الذي يكفل لها القدرة على الحيلولة دون صدور القرارات التي لا ترغبها فيها. لا تكمن القضية الرئيسية فيما إذا كانت الجامعة العربية هي منظمة قومية أو إقليمية، وإنما بمساحة العمل العربي المشترك الذي تقبل الدول العربية أن يصبح من صلاحيات هذه الجامعة، وما هو شكل الأجهزة وأسلوب اتخاذ القرارات الذي يكفل لها الفاعلية لتحقيق الأهداف المشتركة؟

هذا هو ما يتعين أن يتجه إليه البحث أو التفكير.

في ضوء ما تقدّم يمكن أن نخلص إلى ما يلي:

– إنه لا يوجد في الواقع تناقض حقيقي بين المصالح الوطنية على مستوى كل بلد عربي على حدة، والمصالح القومية العليا، ولكن ليس معنى ذلك أن مصالح الدول العربية تتطابق دائماً بالضرورة في كل وقت وفي كل الظروف. إن المهم هو وجود آلية تضمن تطابق القرار المتخذ على مستوى كل بلد مع مصالحه العليا، وليس عن مصالح فئة أو جماعة محددة أو شخص الحاكم.. فإذا وجدت هذه الآلية يسهل بعد ذلك حصر طبيعة الخلافات في المصالح بين الدول العربية.

– إن الواقع السياسي – الاجتماعي، وقابلية وسهولة اختراق المجتمعات العربية يجعلان من العسير فصل عملية التكامل الاقتصادي والاجتماعي عن المؤثرات السياسية. إن حماية الجهود التكاملية في هذه الميادين تتطلب توافر حد أدنى من التعاون السياسي بين الدول العربية وإرادة سياسية واضحة يتعين بلورتها في شكل التزامات محددة متبادلة.

– إن توافر الحد الأدنى اللازم من الحماية السياسية للعمل التكاملي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية يستلزم وقبل كل شيء، الاتفاق على صيغة محددة للسلوك الخارجي لكل دولة عربية، وهناك بالطبع حاجة ماسة لتعريف ماهية هذه المصالح وطبيعة وحدود السلوك الذي لا يشكل ضرراً بهذه المصالح، وكيفية وأسلوب تعبير الجامعة عن كيفية الدفاع عنها.

عندما تحدد أهداف العمل العربي المشترك بدقة، من الضروري أن تحدد بدقة أكبر أساليب وآليات تحقيق هذه الأهداف.

العدد 1104 - 24/4/2024